اعداد عالية كريم
نواعيرها
(تحفة) الفرات التي روت أجمل البساتين .. وقيرها بنى حضارة وادي الرافدين .
وصفها الرحالة الشهير ابن بطوطة بـ " أحسن البلاد وأخصبها ، وسوقها لا
شبيه له إلا في بلاد الصين، أو كما سماها الرومانيون أرض الحياة لما كانت
تمتلكه من مقومات البناء والطعام ...
انها أشهر
القلاع في تاريخ ما قبل الإسلام، مدينة يحتضنها الفرات بين ذراعيه، احتضان
العاشق لمعشوقته ، لها سحر خاص يشعر به من يدخلها .. سحر يغوص بك في أعماق
التاريخ لتلتقط منه أجمل القلائد التي تحلت بها هذه الحسناء ...
اول اسم عرفت به هو توتول،
والذي يعني مدينة الدلاء. وتتوضح أهميتها فيما سجله سرجون نفسه ذاكراً
ان الآله (داكان) اعطاه المنطقة العليا التي تشمل توتول وماري عاصمة
الأقوام الآمورية الأولى التي كانت ولا تزال تسكن في اعالي الجزيرة
الفراتية. وبعد سرجون الاكدي خلفه ابنه نرام - سين (2291- 2255 ق.م.) الذي
شن بدوره حملات عسكرية في غرب بلاد سومر وأكَدْ لتثبيت ملك والده. وفي نص
اكدي مسماري مدون على تمثال برونزي من العصر الاكدي إشارة إلى أن انتصاراً
حققه الملك نرام- سين على عدة مدن مهمة منها توتول سيف الآله داكان. على أن
ضعف الملوك الاكديين الذين جاءوا بعد نرام سين، ساعد على قيام ثورات في
دويلات المدن السومرية، مما شجعها على التوحيد وتأسيس مملكة سومرية تضم
معظم العراق القديم وذلك سنة (2120 ق.م.)
انها مدينة هِيْت واحدة
من مدن أعالي الفرات الجميلة، المدينة التاريخية العريقة، مدينة النواعير،
والقلعة، وآبار القار الفوّارة، التي منحت المدينة خصوصية مميزة منذ عقود.
وكثيرا ما شجعت سائحين أجانب ليقبلوا على زيارتها، والتمتع بمياهها
المعدنية، وغناء نواعيرها، التي ترفع الماء من الفرات الى كتفه، في آلية
أخّاذة تعود الى آلاف السنين، تقع غرب
العراق في شمال غربي بغداد بمسافة (170 كم) غرباً وتبعد 60 كم غرب الرمادي
عاصمة إقليم الانبار، ارضها تمثل بداية السهل الرسوبي الأعلى على الفرات، ويبلغ
عدد سكانها 120 الف نسمة من عشائر العرب الاقحاح
كالمحامدة والبوفهد والجواعنه وغيرهم. أما سكان المنطقة بأجمعها (أي مدينة
هيت والنواحي والقرى التابعة لها) فيبلغ عدد سكانها أكثر من 500 الف نسمة،
وتعد من أهم مدن التاريخ الإنساني القديم، وكانت من مدن المناذرة، تكثر
فيها بساتين النخيل والفاكهة وهي ذات خيرات واسعة. ولا تزال المنابع المائية الحارة أو العيون الساخنة من أبرز معالم مدينة هيت التي يمكن أن تستهوى في اصواتها وحرارتها، ليس
السواح فقط، بل علماء الآثار والتاريخ والجيولوجيا، ومن بين معالمها، عين
تقع في المركز لا يزيد قطرها على بضعة امتار تسيل منها مادة القير بصورة
سائلة وفي بعض الأحيان تبدو مثل نافورة ماء وهي تطلق اصواتا تشبه فحيح
الافاعي، وأحيانا ترتفع منها ألسنة من اللهب عاليا، وهذا المنظر هو الذي ظل
في اذهان المؤرخين والمسماة بالنار الخالدة،
تقع
مدينة هيت عند دائرة عرض (38 33 ) شمالا مع خط طول (53 42 ) شرقا . لذلك
تتمتع بمركز متميز على نهر الفرات وعند بداية السهل الرسوبي وعلى الطريق
البري الذي يربط العراق بالحدود الاردنية من جهة، والحدود السورية من جهة
اخرى . ومع ذلك ما توفر للمدينة من عوامل بيئية ( تربة ، مناخ ، ماء )
جعلها تكون منطقة زراعية تنتج المحاصيل الوفيره والضرورية لادامة الحياة
لسكانها، اضافة لما توفره من مواد تدخل في الصناعات الغذائية المختلفة
كصناعة الدبس ( عسل التمر ) والراشي ( الطحينة ) والخل ..... الخ ، وكذلك
ما توفره من مواد تدخل في الصناعة، كالاخشاب التي تستعمل لاغراض شتى ...
اما
تربة المدينة فقد ساهمت في ازدياد اهمية المدينة لما يتوفر فيها من معادن
ومواد اولية ذات اهمية كبيرة كالاملاح والقير واحجار الكلس التي تدخل في
عمليات البناء، كل ذلك ساعد على قيام منطقة للصناعات الحرفية المختلفة .
وهناك بالقرب من مدينة هيت توجد اثار مدينة تعرف ( المقلوبة ) التي يعتقد
البعض بانها مركز لنحت الصخور وصناعة الالهة والمنحوتات الحجرية الاخرى ...
موقع
المدينة على الضفة اليمنى لنهر الفرات جعلها حلقة وصل بين شرق الفرات
وغربه من جهة، ونقطة تبادل تجاري وتموين لسكان الهضبة الرحل من منتجات
المزارعين في السهل الرسوبي من جهة اخرى . كما انها تمثل محطة تحول من
البيئة السهلية الى البيئة الهضبية وهذا كله ساعد على قيام عمليات تبادل
تجاري واسعة وتلاقي حضاري وثقافي بين مختلف البيئات وبين اناس من مختلف
العوالم وبمختلف الصفات الاجتماعية والاقتصادية والحضارية مع مكان هذه
المدينة . وتجدر الاشارة، الى دور القلعة المرتفعة التي ساعدت هذه المدينة
على النجاة من فيضانات الفرات العارمة التي كانت تدمر الكثير من القرى
والارياف والمدن وتدخل الخراب اليها .
ارجع
الشيخ رشاد الخطيب في كتابه ( هيت في اطارها القديم والحديث ) بناء مدينة
هيت الى ماقبل الطوفان وكيف ان نوحاً عليه السلام لما بنى سفينته طلاها من
قار هيت، وان مدينة بابل التاريخية وبرجها المعروف بُنيا من القار نفسه
لمقاومته الظروف الطبيعية، ومازالت مدينة هيت تشتهر بعيون القير بشكل واسع
اضافة الى العيون الكبريتية التي يقال انها تشفي الكثير من الامراض كما ان
سرجون الاكدي (2400ق.م) قدم الى هيت لتقديم القرابين الى الآلهة (دكان)
الذي من المرجح انه آلهة الجبال، ومازالت هذه المنطقة تعتبر المصدر الرئيسي
للحجارة في مناطق اعالي الفرات وبنيت الكثير من المعامل بتقطيعه اشكال
فنية لتزيين واجهات المنازل، وكان سوقه رائجاً في الفترة الاخيرة في بغداد
والمحافظات الاخرى.. وحفر الملك الساساني خندقاً بالقرب من هيت ينحدر الى
البصرة بعد غزوات الاعراب وهو مايعرف محلياً (بجري سعدة) والحكايات الشعبية
حوله كثيرة ومن بينها.. ان احد امراء البصرة اقترن بفتاة من هيت فحفر لها
هذا النهر لتُنقل عبره في يوم زفافها ...
ماتبقى
الان من هيت القديمة هو القلعة التي تقع على الجهة اليمنى من نهر الفرات
والتي مازالت اطلالها تنتصب بشموخ تحكي قصة اجيال خلت لاقدم حضارة عرفتها
الانسانية في موطن هيت. ويتفق المؤرخون على ان قلعة هيت هي واحدة من القلاع
الثلاث في العراق مثلها مثل قلعتي اربيل وكركوك.. الا ان لقلعة هيت
خصوصيتها رغم التباين في وجهات النظر فمنهم من قال انها قائمة على تلة من
الارض قام الناس ببناء بيوتهم عليها حفاظاً على ارواحهم وممتلكاتهم من
فيضانات النهر المدمرة، وذهب آخرون الى وجهة نظر مغايرة تقول ان القلعة
تكونت نتيجة لتراكم انقاض البيوت بعضها فوق البعض لقرون خلت وهذا الرأي هو
الراجح باعتبار ان سقوف تلك البيوت متكونة من طبقات من الطين بارتفاعات
متباينة ومطلية من الاعلى بالقير المتوفر من خلال عيون القار المنتشرة في
المدينة، والسبب الرئيسي لاندثار الغالبية العظمى من هذه البيوت هو الكثافة
السكانية الكبيرة ولان الكثير من مساحاتها يتراوح بين (20-100) متر مربع
على اكثر تقدير والتي تبدو وكأنها متداخلة مع بعضها وازقتها ضيقة لاتتعدى
من (1-2) متر.. وبالرغم من ذلك لاتزال مجموعة كبيرة من العوائل تقطن فيها،
حيث يقع ضمن القلعة جامع الفاروق الذي تم بناؤه في عهد الخليفة عمر بن
الخطاب (رض) ومازال قائماً لحد الان بمئذنته التي لايوجد لمدرجاتها مثيل
حيث ان المدرجات (البايات) تشكل كل اربعة منها سلماً لتكون اخيراً شكلاً
دائراً بزاوية قائمة ويستقطب الكثير من الزائرين لاداء الصلاة في هذا
الجامع تبركاً، رغم الجوامع الكثيرة الموجودة في هيت.. ويحيط بالقلعة سور
ومن خلف السور خندق ليكونا حصناً منيعاً لحماية المدينة ويضم السور اربعة
ابواب هي باب السنجة والغربي والشرقي والسور وان الباب الغربي يتكون من
بابين احدهما اعلى ارتفاعاً وعرضاً من الاخر، وفوق كل واحد منها قوس لمنع
الغزو ومراقبة السفن والمارة في النهر ويقال ان المدينة كانت محاطة بالمياه
من ثلاث جهات مما يسهل على اهلها الدفاع عنها..
كانت
منطقة هيت تمثل منخفضاً مائياً في عصور قديمة سحيقة وكانت المياه تتجمع
فيها من روافد الفرات وفيضان ضفتيه بالإضافة إلى موسم الأمطار والمنابع
المائية لتشكّل ارضاً خصبة صالحة للزراعة وخاصة الخضراوات والفواكة
والحبوب. وكان السومريون منذ عصر فجر السلالات قد اكتشفوا وجود القار في
هذا المكان، واستعملوه في تقوية بناء الزقورات. كما عرف السومريون وسائل من
شأنها الأرتقاء بخصائص القار ليناسب أعمال بناء الأسس وتزفيتها أو تقييرها
وكذلك صنع القوارب واكساء ارضيتها بالقار لمنع نفوذ الماء.
نشأت
في هيت تربة زراعية منذ الألف الرابع قبل الميلاد. وفي عهد الإمبراطورية
الاكدية حينما قام الملك سرجون الاكدي (2334- 2279 ق.م)، بتوحيد العراق
القديم فضم إلى دولته المدن السومرية المنتشرة في جميع أنحاء بلاد سومر،
وسار غرباً متوجهاً إلى بلاد كنعان ووجد قرية زراعية فسيحة الارجاء استقر
فيها جيشه الزاحف غربا ودعاها توتول (tutul) . واتسعت هذه المملكة السومرية
لتشمل مدن نهر الفرات الغربية حيث تمتعت تلك المدن بالاستقلالية من ضمنها
مدينة توتول. وفي عام (1950 ق.م) تقريباً مدت المملكة - ماري المدينة قرب
حدود بلاد الرافدين، نفوذها لتشمل حوض الفرات مع الخابور. وفي عهد ملكها
لكت - ليم، وصلت سيطرتها إلى مدينة توتول وخانات أو عانات، على الرغم من أن
الملك السومري الأخير اقام سداً يمتد من هيت وعانا حتى بحيرة الحبانية لصد
الأقوام الآمورية الزاحفة من جهة الغرب ولكن بدون جدوى. وفي سنة (1850
ق.م) استطاعت مملكة اشنونا التي نشأت في اعالي نهر ديالى تحت حكم ملكها
(ابيق - ادد) ان توسع مملكتها لتشمل منطقة الفرات من جديد. وكان من جملة
المدن التي احتلها هي توتول وبعد أن ضعفت مملكة اشنونا، قامت مملكة ماري
بتوسيع نفوذها إلى مدينة خانات وربما وصلت إلى مدينة توتول، ثم زحفت
الأقوام الآمورية القادمة من ماري ومن الصحراء الكنعانية واستقرت حول بلدة
باب - ايلو (بابل) السومرية. ومن هناك شرعت بتكوين دولة جديدة في جنوب ووسط
العراق القديم وأشهر ملوكها كان حمورابي وذلك في القرن الثامن عشر قبل
الميلاد.
لقد
اهتم الفرس الساسانيين ببلدات هيت وعانات والوس التي بناها سابور ذو
الاكتاف، وجعلها مسلحة (حصنا) تحفظ البلاد من زحف البدو الآتين من الصحراء،
كما بنى أيضاً مدينة فيروز - شابور التي توسعت وأصبحت طسجاً يمثل وحدة
زراعية - مالية باسم طسج فيروز شابور ليشمل مدن فيروز شابور (الانبار)
وعانات وهيت والوس وبقة ويشير بعض المؤرخين العرب ان ثلاثة رجال وصلوا بلدة
بقة على الفرات كانوا يعرفون حروف الهجاء العربية لكن أسماءهم تحورت لكنها
وجدت في مصدر سرياني وهم (مار ماري برماري) الذي حور اسمه إلى (مرامر بن
مرة) و(شليما بر سدرا) الذي قلب اسمه إلى (اسلم بن سدرة) و(عمر آبا بر
جدرا) ويعني بالسريانية الحاذق أو الطاهر. والواضح انهم مجموعة من السريان
كانوا قد علموا الخط العربي في تلك الأنحاء، كما علمت مدرسة الحيرة الخط
العربي المتأثر بالسريانية والآرامية. وفي الزحف الإسلامي نحو العراق، وجد
الجيش صعوبة في اختراق مدينة هيت التي كان الهيتاويون قد حفروا امامها
خندقاً اخترق وسط المدينة، وحصنوا منها الأجزاء الأخرى، لكن بعد معالجات
استطاع الجيش الإسلامي فتح المدينة عام 636م (16 هـ) وتوضح الابيات التالية
بعض جوانب المعركة وهي من شعر عمر بن مالك:
قدمنا على هيت وهيت مقيمة - بأنصارها في الخندق المتطوق
قتلناهم فيما يليه فأحجموا - وعادوا به عيد الدم المترقرق
بني
أول مسجد في المدينة تحت اسم الجامع الفاروق وقد اعيد بناؤه عدة مرات، وما
زال قائماً في حين زالت كنيسة هيت وزال معها عدد من الاديرة المسيحية.
ويحتوي المسجد على واحدة من أقدم المنارات التي بنيت في زمن الخليفة عمر بن الخطاب (رض) .. وتحت ثراها يرقد حفيد الإمام موسى الكاظم (ع) ...
مدينة
هيت من المدن التاريخية القديمة ، وتعد تسمية هيت من الأسماء القديمة في
المصادر الحضارية لبلاد الرافدين ، إذ ورد اسمها في المصادر السومرية باسم
(دلدلي) وتعني بئرا نهريا ومنها جاءت كلمة (دلو) العربية " " وعند الأكديين
سميت باسم (أتو) وتعني (القار) وهذا منشأ الاسم العربي لهيت ، أما عند
الحضارتين البابلية والآشورية فهي (أيتو) و(هيتو) وكانت تلفظ (أدوم) أو
(أتوم) أي (هيتوم) ، وذكرت أيضاً في المصادر اليونانية والرومانية مثل (أد )
و(اسي) ، وجاء في كتاب لسان العرب لابن منظور أن هيت تعني الهوة القعيرة
من الأرض أي المنطقة المنخفضة ، وهذا ما نشاهده عندما نأتي إليها من الشرق
والغرب الصمود أمام جيش القرامطة ويضيف " كان لمدينة هيت دور بالمساهمة في
بناء حضارة وادي الرافدين، كونها تعد المصدر الرئيس للقار الذي نقل إلى
مدن وسط العراق وجنوبه، إذ استخدمه البابليون كمادة في البناء وملاط مع
الآجر والتراب، فضلاً عن ذلك فإن للمدينة مساهمة كبيرة في التاريخ العربي
الإسلامي عندما دخلت في الإسلام بعد تحرير العراق من السيطرة الفارسية على
يد الحارث بن يزيد العامري سنة 16هجرية ، وكان لأبنائها دور في ترسيخ قيم
الإسلام ، وبخاصة صمودهم أمام جيش القرامطة الذين حاولوا الاستيلاء على
هيت، إلا أن شجاعة أهلها كانت أشد صلابة وعزماً بصد ذلك الجيش الذي عاد
مهزوماً إلى الكوفة ". ولهذه المدينة شواهد على تاريخها القديم الذي امتد
منذ الألف الثاني قبل الميلاد حتى الفتح الإسلامي، إذ انتشر أكثر من 20
موقعا آثارياً فضلاً عن بقايا القلعة القديمة التي تمثل المنطقة المركزية
في الوقت الحاضر إضافة إلى معالمها الإسلامية المتمثلة بمئذنة جامع الفاروق
ومرقد الصحابي عبد الله بن المبارك (رض) الذي تعرض للهدم عام 2005 على يد
الجماعات المسلحة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق