رواية'' الحمار الذهبي'' للوكيوس أبوليوس أو أفولاي أول نص روائي في تاريخ الإنسان
د. جميل حمداوي
د. جميل حمداوي
تعد رواية" الحمار الذهبي" للوكيوس أبوليوس أو أفولاي
أول نص روائي في تاريخ الإنسانية . وقد وصلتنا هذه الرواية كاملة، وهناك
روايات قبلها لكنها وصلت ناقصة. ويعتبر هذا العمل الأدبي الإبداعي أيضا أول
نص روائي فانطاستيكي في الأدب العالمي. ولايمكن أن نتفق مع الذين ذهبوا
إلى أن رواية "دونكيشوت"(1604م) لسرفانتيس - الكاتب الإسباني- أول نص روائي
عالمي، أو مع الذين أثبتوا أن بداية الرواية قد انطلقت مع الرواية
التاريخية الإنجليزية في القرن الثامن عشر(والتر سكوت ، ودانيال ديفو،
وفيلدينغ...) . زد على ذلك أن رواية "الحمار الذهبي " هي المنطلق الحقيقي
لظهور الرواية الأمازيغية في حين أن أعمال تيرينيس آفر تشكل البداية
الفعلية للمسرح الأمازيغي في شمال أفريقيا(1). إذا، من هو أبوليوس؟
وماهويته؟ وما خصائص روايته" الحمار الذهبي" دلالة وصياغة ومقصدية وكتابة؟
وأين يتجلى تأثيرها على الأدب المغربي والعربي بصفة خاصة والأدب العالمي
بصفة عامة؟ هذه هي الأسئلة التي سوف نرصدها في موضوعنا هذا.
تعد رواية" الحمار الذهبي" للوكيوس أبوليوس أو أفولاي أول نص روائي في تاريخ الإنسانية . وقد وصلتنا هذه الرواية كاملة، وهناك روايات قبلها لكنها وصلت ناقصة. ويعتبر هذا العمل الأدبي الإبداعي أيضا أول نص روائي فانطاستيكي في الأدب العالمي. ولايمكن أن نتفق مع الذين ذهبوا إلى أن رواية "دونكيشوت"(1604م) لسرفانتيس - الكاتب الإسباني- أول نص روائي عالمي، أو مع الذين أثبتوا أن بداية الرواية قد انطلقت مع الرواية التاريخية الإنجليزية في القرن الثامن عشر(والتر سكوت ، ودانيال ديفو، وفيلدينغ...) . زد على ذلك أن رواية "الحمار الذهبي " هي المنطلق الحقيقي لظهور الرواية الأمازيغية في حين أن أعمال تيرينيس آفر تشكل البداية الفعلية للمسرح الأمازيغي في شمال أفريقيا(1). إذا، من هو أبوليوس؟ وماهويته؟ وما خصائص روايته" الحمار الذهبي" دلالة وصياغة ومقصدية وكتابة؟ وأين يتجلى تأثيرها على الأدب المغربي والعربي بصفة خاصة والأدب العالمي بصفة عامة؟ هذه هي الأسئلة التي سوف نرصدها في موضوعنا هذا.
تمهيد:
تعد رواية" الحمار الذهبي" للوكيوس أبوليوس أو أفولاي أول نص روائي في تاريخ الإنسانية . وقد وصلتنا هذه الرواية كاملة، وهناك روايات قبلها لكنها وصلت ناقصة. ويعتبر هذا العمل الأدبي الإبداعي أيضا أول نص روائي فانطاستيكي في الأدب العالمي. ولايمكن أن نتفق مع الذين ذهبوا إلى أن رواية "دونكيشوت"(1604م) لسرفانتيس - الكاتب الإسباني- أول نص روائي عالمي، أو مع الذين أثبتوا أن بداية الرواية قد انطلقت مع الرواية التاريخية الإنجليزية في القرن الثامن عشر(والتر سكوت ، ودانيال ديفو، وفيلدينغ...) . زد على ذلك أن رواية "الحمار الذهبي " هي المنطلق الحقيقي لظهور الرواية الأمازيغية في حين أن أعمال تيرينيس آفر تشكل البداية الفعلية للمسرح الأمازيغي في شمال أفريقيا(1). إذا، من هو أبوليوس؟ وماهويته؟ وما خصائص روايته" الحمار الذهبي" دلالة وصياغة ومقصدية وكتابة؟ وأين يتجلى تأثيرها على الأدب المغربي والعربي بصفة خاصة والأدب العالمي بصفة عامة؟ هذه هي الأسئلة التي سوف نرصدها في موضوعنا هذا.
1- هوية أبوليوس:
ولد أبوليوس أو أبولاي، أو أفولاي (Apuleius, Apulée) الأمازيغي في أوائل القرن الثاني حوالي 125 م وتوفي حوالي170م إبان الامتداد المسيحي. و كان يعترف بثقافته الإفريقية و هويته الامازيغية، إذ كان يقول: " لم يتملكني في يوم من الأيام أي نوع من الشعور بالخجل من هويتي و من وطني"(2)، و يقول أيضا، بكل اعتزاز و افتخار: "أنا نصف كدالي و نصف نوميدي"(3). بيد أن ثمة باحثين أدرجوه ضمن الأدباء اللاتينيين، و نزعوا عنه الهوية الأمازيغية. و من بين هؤلاء إميـل فاگيـه Emile Faguet(4) الذي أدرج أبوليوس ضمن اللاتين المقلدين للإغريق. و قال عنه "أما أبوليس في روايته "الحمار الذهبي"، فلا يعدو أن يكون روائيا هوائيا بالغ التعقيد شغوفا بكل شيء، و خاصة بالأشياء الفريدة في نوعها قويا مليا و صوفيا في ساعاته، و جماع القول: إنه مربك جدا"(5)، و منهم كذلك الدكتور محمد غنيمي هلال عندما نص على تأثر القصة اللاتينية بالقصة اليونانية، و خير من يمثل هذا التأثر قصة "المسوخ" أو "الحمار الذهبي" التي ألفها أبوليس Apulius في النصف الثاني من القرن الثاني بعد الميلاد، و لها أصل يوناني مجهول للمؤلف(6).
ولقد ذهب الباحث المغربي حميد لحميدانـي نفس المذهب عندما جرد أبوليوس من هويته الأمازيغية، و أدرجه ضمن الأدب الروماني القديم الذي كان يعتمد اللاتينية لغة ، وقد أشار إلى أن "لوكسيوس" بطل رواية المسوخ Les métamorphoses للقصاص اللاتيني "أبوليوس" Apulius يفسر ذلك التحول الفانطاستيكي الذي يطرأ على الإنسان فيصير دون طبيعته الإنسانية بالاستسلام للغرائز الحيوانية الدنيا(7).
و نجد من الذين دافعوا عن أمازيغيته محمد شفيق الذي أدرجه الى جانب المسرحي تيرنيسي آفـر أو تيرنتيـوس آفر Terentius Afer (185؟159 ق.م) ضمن أدباء الثقافة الامازيغية في عهد الوثنية الذين تثاقفوا مع الأدب الإغريقي و اللاتيني(8)، ونجد محمد حندايـن الذي اتخذ من أفولاي Apulée مثالا للشخصية الامازيغية القوية في الأدب العالمي القديم الذي تعلم كثيرا من اللغات و ألف كتبا عديدة أشهرها روايته "الحمار الذهبي" التي أثر بواسطتها على الرواية العالمية القديمة، وأبهر الرومان و الإغريق الى درجة اتهامهم له بالسحر(9). ونفس الموقف سيتخذه الكاتب الليبي الدكتور علي فهمي خشيم حينما اعتبر أبوليوس كاتبا إفريقيا أمازيغيا وعروبيا، كان ينتقل بين الجزائر وقرطاج وليبيا، وعد " الحمار الذهبي" أول نص روائي عربي (10) . ويذهب كذلك عباس الجـراري إلى أن التاريخ احتفظ بأسماء غير قليل من الأدباء و الفلاسفة و علماء الدين الذين تخرجوا في هذا التعليم من مختلف أقطار الشمال الإفريقي، و عبروا باللاتينية في الغالب لأنها كانت لغة الفاتح المستعمر، و ليس لأن اللغة الوطنية كانت قاصرة كما ذهب إلى ذلك أندريه جوليـان(11). و يدرج المؤرخ الفرنسي شارل أندري جوليـان (Charles André Julien) المتخصص في تاريخ أفريقيا الشمالية القديمة مبدعنا أبوليوس ضمن أدباء إفريقيا إذ قال" كان أبوليوس المولود حوالي سنة 125م من أشهر الكتاب الأفارقة"(12).
ويتبين لنا مما سبق، أن هوية أبوليوس جزائرية المولد، وأفريقية المنبت، وأمازيغية الأصل، ولكنها رومانية الجنسية، وإغريقية الثقافة والفكر، وشرقية المعتقد.
2- نشأة أبوليوس:
نشأ لوكيوس أبوليوس أو أبوليوس الماضوري في أسرة أرستقراطية في مدينة مـداوروش بالجزائر قرب سوق هراس سنة 125م. إذ كان أبوه أحد الحاكمين الاثنين في أوائل القرن الثاني في هذه المنطقة، و كان أبوليوس أشهر كتاب و شعراء هذا العهد.
لقد درس هذا الأديب الأمازيغي الأصل بقرطاج، حيث أخذ من كل الفنون بطرف، و كانت هذه المدينة الإفريقية عاصمة فكرية و سياسية في آن معا، و نبغ فيها هذا الأديب، وتخصص في المسرح و نبغ فيه إذ كان القرطاجيون يهتفون به في المسرح، و كان يقول لهم:" إني لا أرى في مدينتكم إلا رجالا كرعوا من مناهل الثقافة، وتبحروا في جميع العلوم: أخذوا العلم صغارا، و تحلوا به شبانا ودرسوه شيوخا، إن قرطاج لهي المدرسة المقدسة في مقاطعتنا، و هي عروس الشعر في إفريقية، و هي أخيرا، ملهمة الطبقة التي تلبس الحلة"(13). وقد تابع أبوليوس دراساته العليا في اليونان ( أثينا) وإيطاليا و آسيا الصغرى، و لقد أعجب بالفلسفة السوفسطائية ، و الفلسفة الأفلاطونية المحدثة، والفلسفات ذات الطبيعة الصوفية الروحانية التي تضمن للمؤمنين حياة أبدية سعيدة(14).
و بعد عودته الى بلده، اتهم هناك بممارسة السحر، فدافع عن نفسه بصلابة، و ألف في الموضوع كتابا عنوانه:" في السحرMagicae."(15).و سبب هذه التهمة أنه صادف أثناء إقامته في طرابلس أن وقع في مغامرة غريبة،" ذلك أنه ما أن تزوج من أم أحد أصدقائه، و كانت إلى ذلك الوقت ممتنعة امتناعا شديدا من التزوج ثانية، حتى اتهم بأنه سحرها، و قد أخذ أحد المحامين على نفسه، أن يقيم الدليل على أن يدافع عن نفسه دفاعا رائعا. لم يكن كله مقتنعا و أنحى على خصومه باللائمة، لأنهم خلطوا بين الفلسفة و السحر، و قد حرر خطابه بعد ذلك في صيغة إيجابية، فأصبح يعرف بالأبولوجيا (Apologie)(16).
و لم تعق هذه التهمة مسيرته الفكرية، إذ سرعان ما توجه إلى قرطاج لممارسة العلم و تلقين الدروس لطلبة الثقافة و الأدب، فأصبح قبلة الأنظار في هذه المدينة، و المحاضر المحبوب الذي يعالج جميع المواضيع وخاصة الفلسفية منها (17).
وعليه، فلقد نعت أبوليوس بمواصفات عدة، إذ كان غريب الأطوار و كثير المتناقضات فهو جدي و طائش و متطير و شاك و معجب بنفسه، و كان يدافع عن" المستضعفين" كثيرا.
3- مؤلفات أبوليوس:
كان أبوليوس كاتبا مرموقا في عصره بين أدباء الثقافة العالمية، إذ نافس اللاتينيين و الرومانيين و اليونانيين على الرغم من تأثره بهم خلقا وتناصا ولاسيما في روايته الفانطاستيكية التي ألفها في أحد عشر جزءا، و بها وضعه تاريخ الفكر في مصاف كبار الكتاب العالميين الخالدين في كتابه ذاك الذي يسمى "التقمصات Les métamorphoses أو الحمار الذهبي (18)، علاوة على كونه مسرحيا و شاعرا كبيرا خاصة في ديوانه (الأزاهير) Florides ، وهو عبارة عن مقتطفات شعرية ألقاها في قرطاج وقد ترجمها إلى اللغة العربية الدكتور فهمي خشيم . ويضم هذا الديوان ثلاثا و عشرين قطعة من خطاباته تتفاوت طولا وقصرا، جمعها أحد المعجبين به" كباقة" جمعت أجمل زهور بلاغته، و كان يتبجح فيها بأنه يتقن الفنون على اختلافها، وكان يتوجه لمساعد القنصل في شيء من الخيلاء البريئة قائلا:" أعترف بأني أوثر من بين الآلات شق القصب البسيط، أنظم به القصائد في جميع الأغراض الملائمة لروح الملحمة، أو فيض الوجدان، لمرح الملهاة أو جلال المأساة، و كذلك لا أقصر لا في الهجاء و لا في الأحاجي و لا أعجز عن مختلف الروايات، و الخطب يثني عليها البلغاء، و الحوارات يتذوقها الفلاسفة. ثم ماذا بعد هذا كله؟إني أنشئ في كل شيء سواء باليونانية أم باللاتينية بنفس الأمل ونفس الحماس و نفس الأسلوب"(19).
وقد أطلقت على روايته الغرائبية (الحمار الذهبي) تسميات عدة من بينها: المسوخ Les métamorphoses ، وقصة المسخ كما عند حميد لحمداني، أو "الحمار الذهبي" ( أو التحولات ) كما عند عمار الجلاصي، أو الحمار الذهبي فحسب كما لدى أبو العيد دودو ، أو" تحولات الجحش الذهبي" كما عند فهمي علي خشيم. وأسميها – شخصيا- رواية" الحمار الوردي"، لأن كلمة الورد أو الوردي تتكرر مرارا في متن الرواية، إذ وصف لوكيوس بأنه وردي البشرة، ووصفت حبيبته بأنها وردية اليد، والأكثر من ذلك أنه كان يحلم بالورد طيلة فترة تحوله، ويفر كلما رأى الورد أو ما يشبه الورد لأنه يجسم الخلاص بالنسبة إليه. وهناك من ترجم هذه الرواية عن اللاتينية كعمار جلاصي وأبو العيد دودو، وهناك من ترجمها عن الإنجليزية كعلي فهمي خشيم.
ومن كتبه الأخرى "دفاع صبراتة" الذي ترجمه الدكتور فهمي علي خشيم، و" في السحر"، و كتاب"شيطان سقراط" وهو عبارة عن كوميديا ساخرة تختلط فيها الفلسفة بالسخرية، وقد شرع الكاتب الليبي فهمي علي خشيم في ترجمته إلى اللغة العربية.
3- مضامين رواية الحمار الذهبي:
ظهرت قصة أبوليوس في مسخ الإنسان إلى حيوان ثم عودته الى حالته الأولى في أواخر القرن الأول بعد الميلاد أي حوالي سنة 170 م في قرطاج، و راوي هذه القصة هو لوسيــان حيث حوّل البطل لوكسيوس إلى حمار الذي سيعود إلى صورته الآدمية الأولى بعد مغامرات عديدة تتخللها قصص جزئية متداخلة، تضمينا و تشويقا وتوليدا كقصة "بسيشـية وكوبيـدون" الرائعة في أبعادها الفاطاستيكية والأخلاقية.
هذا، وإن رواية الحمار الذهبي ذات طابع ملحمي و فانطاستيكي غريب، حيث تعتمد على فكرة المسخ و تحويل الكائن البشري الى حيوانات أو أشياء على غرار الإبداعات اليونانية . إذ يتحول لوكسيوس في هذه الرواية إلى حمار بسبب خطإ حبيبته فوتيس التي كان يحبها لوكيوس كثيرا حينما ناولته مادة دهنية في ملك سيدتها بامفيلا زوجة ميلون التي تمارس السحر في غرفتها السرية، وبهذه المادة يتحول الكائن البشري إلى أنواع من الطيور والكائنات الخارقة التي تجمع بين الغرابة والتعجيب. وعندما سمع لوكيوس الشاب أسرار سحر هذه المرأة دفعه تطفله وفضوله إلى أن يأمر فوتيس بجلب دهن الساحرة ليجربه قصد التحول إلى طائر لينأى عن الناس ويهاجر حيال عالم المثل بعيدا عن عالم الفساد والانحطاط البشري. بيد أن فوتيس جلبت له مادة دهنية سامة تحوّل الإنسان إلى حمار. و بعد مغامرات صعبة ذاق فيها لوكيوس أنواعا من العذاب والهلاك وتعرف عبرها مكائد البشر وحيلهم يعود إلى حالته الآدمية الإنسانية بعد أن تدخلت الآلهة إيزيس لتجعله راهبا متعبدا وخادما وفيا لها.
و بتعبير آخر، إن لوكسيوس بطل القصة، اتجه نحو مدينة "تسالـي" لأمور تخص أسرته، فنزل على فتى بخيل ضيفا له، فكانت لذلك المضيف الشحيح امرأة ساحرة تتحول إلى أشكال مختلفة إذا دهنت نفسها بأنواع من الزيوت الخاصة بالمسخ و التحويل، فطلب "لوكسيوس" من عشيقته فوتيس أن تدهنه ليتحول الى مخلوق آخر، بيد أنه تحول إلى حمار، بعدما أن أخطأت فوتيس خادمة بامفيلا الساحرة في اختيار المحلول المناسب للمسخ، و هكذا يتعرض لوكسيوس/ الحمار لكثير من العذاب جوعا وقسوة فظل أسير المعاناة والتنكيل و الاضطهاد في أيدي الكثير من البشر بما فيهم اللصوص والرهبان .
و بعد انتقاله من يد الى يد، كان يطّلع في مغامراته السيزيفية على كثير من خبايا البشر وقصصهم وحوادثهم وتجاربهم، و يعرف ضروب الفسق الآدمي، علاوة على العار، و ضربات العصا و الظلم في مخاطرات كثيرة الى درجة كرهه للإنسان الذي انحط انحطاطا خلقيا، و لم يتحول الى حالته الأولى إلا على يد كاهن يحرس معبد الآلهة "ايزيـس".
إن قضية المسخ قديمة إذ وجدت في الملاحم القديمة حيث كان الإنسان يتحول إلى قرد أو حيوان أو سمكة أو شجرة أو حجرة، و يستند هذا المسخ في القديم الى طقوس و عقائد شعبية، ففي" أوديسيـة" هوميـروس الشاعر اليوناني مسخ أصحاب "يوليـوس" إلى خنازير. كما توجد في أشعار يونانية قديمة قصائد و مقطوعات موضوعها قصص المسخ التي ضاع منها الكثير.
و يعبر تحول لوكسيوس إلى حمار عن فكرة المسخ الحيواني والعقاب القاسي لكل متطفل فضولي لم يرض برزقه وبشريته وإنسانيته، كما يحيل على ذلك الجزاء الذي يستحقه الزناة ومنحطو الأخلاق ،ذلك أن لوكسيوس سيدخل في علاقات جنسية غير شرعية مع خادمة مضيفه ميلون، وقد يدل هذا المسخ على انحطاط الإنسان وعدم سموه أخلاقيا. ولن يعود البطل إلى حالته البشرية إلا بعد التوبة والدعاء باسم الآلهة والتخلص من نوازعه الإيروسية وانفعالاته البشرية العدوانية وتدخل المنقذة إيزيس. لذلك نلفي الكاتب يشيد بإيزيـس الآلهة المخلصة و بالديانة الشرقية وفي نفس الوقت يسفه بالديانات الرومانية وانحطاطها الأخلاقي بله عن و صفه لبعض العادات و التقاليد السائدة في عصره وهجوها نقدا وتسفيها. و قد آل هذا التحول الفانطاستيكي إلى معنى رمزي يجسد انحطاط الإنسان ونزوله إلى مرتبة الحيوان حينما يستسلم لغرائزه وأهوائه الشبقية وانفعالاته الضالة، بيد أن النجاة في الرواية لن تتحقق سوى عن طريق المحن والابتلاءات والاختبارات المضنية و الاستعانة بالتوبة واسترضاء الآلهة.
و من القصص الدخيلة الهامة في الرواية قصة الفاتنة "بيسيشية و حب الإله "كوبيـدون" لها، ثم هيامها به، و تعرضها لكثير من المحن في سبيل ارتقائها إلى مرتبة الخلود و هي تشغل في القصة جزءا من الكتاب الرابع ثم الكتاب الخامس و جزءا من السادس، و قد اتخذت فيما بعد رمزا للحب الإلهي و ارتقائه بالنفس الى مرتبة الخلود (20).
و عليه، فالحمار الذهبي باعتباره نصا سرديا خارقا، يتضمن خمس لحظات فنية و جمالية تكوّن ما يسمى بالحبكة السردية للرواية:
1- لحظة البداية المتوازنة:
في هذه الفترة يعيش البطل – الراوي – حياة متوازنة، من سماتها الاستقرار و التعقل بالرغم من الصعوبات المحيطة به ، و هكذا لم يكن هناك ما يعكر صفو لوكيـوس مع حبيبته فوتيـس بالرغم من عصابة مدينة هوباتـا التي يتلذذ لصوصها بقتل من يمر عليهم وسلب ممتلكاتهم وثرواتهم النفيسة.
2- لحظة التوتر الدرامي:
رغبة في معرفة أسرار السحر، والتطفل على عالم الساحرة بامفيلا زوجة ميلون، وتحقيق الطموح الصوفي والمجد عبر التحول إلى طائر للتخلص من عالم البشر والارتقاء إلى عالم المثل ، يتحول لوكيوس إلى حمار ذهبي عن طريق الخطإ ؛ لأن عشيقته فوتيس ناولته دهنا ساما لايحول الإنسان إلى طائركما كانت تظن عندما سحبته من صندوق سيدتها، بل يحول الإنسان إلى حمار أثناء مسح الجسد بذلك العقار العجيب. وعندما حاول لوكيوس أن يقلد الساحرة بامفيلا في حركتها لكي يطير مثل النسر، كان البطل قد تحول إلى حمار غريب:" أكدت لي ذلك مرارا، وتسللت وهي في غاية الاضطراب داخل الغرفة وأخرجت علبة من الصندوق.فاحتضنتها وقبلتها أولا داعيا أن تبارك طيراني. وبسرعة خلعت كل ملابسي ثم غمست يدي بلهفة، فاغترفت منها كمية وافرة من الدهان دلكت بها كل أعضائي، ثم أخذت أرفرف بذراعي كالطير في محاولات متتابعة. لكن لا ريش ولا زغب حتّى. بالعكس اخشوشن شعر بدني تماما إلى سبائب. وتيبست بشرتي الرقيقة إلى جلد غليظ وفي أطراف أكفي اتحدت كل الأصابع في حوافر ونبت لي في العصعص ذنب كبير. ها أنا ألان بوجه ضخم وفم عريض وخيشومين فاغرين ومشفرين متهدلين وأذنين مسبسبتين مع نماء مفرط. ولا أرى لي من عزاء على هذا التحول التعيس سوى نمو بعض أعضائي. وإن بت الآن عاجزا عن احتضان فوتيس الحبيبة.
أخذت أقلب البصر ولا وسلة للخلاص في كل أعضاء بدني. فلا أراني طيرا بل حمارا. فأهم بالشكوى مما فعلت فوتيس بي. لكني سلبت الحركة والصوت البشريين. فما أستطيع سوى مط شفتي والرنو إليها بعينين دامعتين. موجها إليها شكاتي الخرساء "(21).
من هذه العقدة التي تتمثل في التحول الفانطاستيكي والامتساخ الحيواني تبدأ لحظة اختلال التوازن الذي يحكم أغلبية القصص العجائبية.
3-لحظة الصراع:
تتمثل هذه اللحظة في صراع لوكسيوس مع الواقع المتعفن الذي لم يجد فيه سوى العذاب والضرب و الاحتيال والمكائد والفساد . إنه العالم المبرقش بالزيف والنفاق وتردي الإنسان.
4- لحظة الحل:
يتمثل حل الرواية في تحول لوكسيوس إلى إنسان بعد أن ساعدته إيزيس على ذلك.
5- لحظة النهاية:
تتمثل لحظة إعادة التوازن بعد أن عرف لوكيوس الحمار تجارب عديدة سواء أكانت مرة أم حلوة مع الرهبان السوريين والطحان والبستاني والجندي والأخويين الطاهيين إلى أن أنقذه من هذا المسخ الحيواني ذلك الكاهن المتعبد الذي حدثه عن قدرة الآلهة إيزيس، مما دفع صديقه لوكيوس إلى أن يناجيها أثناء حلم المنام كي تخلصه من هذه الورطة العويصة، ليتحول بعد ذلك إلى كينونته البشرية ويصبح خادما وفيا لمعبد الآلهة يخدمها بتفان وإخلاص، ومن ثم، أصبح راهبا فكاهنا كبيرا بعد أن ترقى في مراقي العبادة بعد أن اكتشف أسرار أوزيريس.
4- خصائص الرواية الفنية والمرجعية:
إن رواية "الحمار الذهبي" قراءة انتقادية ساخرة للمجتمع الروماني على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية. وتتجاوز هذه القراءة "الوعي البشري، و تنقب داخل المخبأ و داخل اللاوعي،و ينبغي قراءة الحمار الذهبي قراءة متأنية في سياق انهيار العقل و اضمحلال المركزية الرومانية و تفككها بحيث لم تعد روما هي معبد الثقافة و لكنها انسحبت أو بدأت تفعل ذلك تاركة مكانها لمناطق أخرى مثل أثينــا" (22).
تبدو الرواية في رحلتها الفانطاستيكية -على الرغم من تعدد أجزائها- نصا واقعيا ساخرا ينتقد العقل الظلامي و يسفه سلوكيات السحرة و أباطرة القضاء الروماني الذين اتهموا "لوكيوس" بالسحر و الشعوذة، ومن هنا فالرواية إعلان لانهيار الإمبراطورية الرومانية وإفلاسها أخلاقيا.
وتتضمن رواية أبوليوس فكرة المسخ لدى الإنسان القديم المرتبطة بفكرة عقاب الآلهة، فهي تنزله على من هم أكثر بعدا عن الروح الإلهية، و أكثر قربا من الحياة الحيوانية البئيسة (23).
و من خصائص رواية الحمار الذهبي أنها رواية عجائبية غرائبية يتداخل فيها الواقع مع الخيال، والسحر مع العقل، والوعي و اللاوعي. ويتبنى فيها الكاتب المنظور الذاتي والرؤية الداخلية وضمير المتكلم مع استخدام تقنية التوليد القصصي أو ما يسمى بالتضمين القصصي دون أن ننسى روعة الوصف وبراعة الأسلوب والإكثار من الإحالات والمستنسخات التناصية وتشغيل الخطابات الدينية والأدبية والفلسفية والصوفية والعجائبية والأسطورية .
وتقترب القصة من خلال خصائصها الفنية والبلاغية من أصلها الملحمي الشاعري "فالقاص ينهج منهج الشاعر في نزعته إلى الواقع، و القاص والشاعر كلاهما كان يتخيل، و يصف ما يتخيل، أيسر مما يصف الواقع و يواجهه، و كانت الجماهير في عصور الإنسانية الأولى تهتم بالأحداث العجيبة و بالأخطار الخيالية، على حين لا تعبأ بالواقع، و لا تحفل به، و بذلك سبقت القصة الخيالية إلى الوجود القصة الواقعية، كما سبق الشعر النثر الفني، إذ كان كل منهما يمتاح من مورد واحد" (24).
5- الحمار الذهبي ولغة الكتابة:
و عليه، فان السؤال الذي يتبادر الى أذهاننا: ما هي لغة الكتابة التي استعملها أفولاي الأمازيغي في روايته "الحمار الذهبي"؟ هل هي لغة الأم وهي الأمازيغية المكتوبة بخط تيفيناغ ؟ أم أنه استخدم اللغة اللاتينية التي درس بها؟ أم أنه وظف اللغة اليونانية التي كان يعشقها؟ ومن المعلوم أن أبوليوس كان يتقن عدة لغات عالمية في تلك الفترة وخاصة اليونانية لغة الفكر والفلسفة.
فليس هناك – حسب رأيي – جواب قاطع و دليل علمي حاسم للفصل في هذه القضية الشائكة، بل هناك افتراضات و تأويلات متضاربة تنقصها الحجج الدامغة، و البراهين العلمية الموضوعية التي تستند إلى الوثائق الحقيقة.
و لقد تعرض شارل أندري جوليـان لهذه القضية بقوله: " و لا تزال المناقشات متواصلة لمعرفة ما إذا كان أبوليوس ألف كتابه باليونانية أو لا ؟ و هل كان لحمار لوسيـان و المسوخ مصدر مشترك أم هل أن المرجع الأصلي هو قصة لوسيـان المطولة يكون "الحمار" ملخصا لها. ومهما يكن فان رواية أبوليوس المتنوعة الطبيعية المحشوة بدقائق العادات و التي تتابع فيها أحاديث الفسق و التقوى هي من الكتب اللاتينية القلائل التي لا تزال تقرأ من دون ملل.
و أنه يتعذر أن نعرف بالضبط هل أن كتاب إفريقية ينحدرون من معمرين رومان، و أغلب الظن أن أكثرهم كانوا من البربر المتأثرين بالحضارة الرومانية الذين عبروا في لغة الفاتحين عما كانت اللغة الليبية و حتى البونيقية قاصرة دونه" (25). أما محمد شفيق فلقد أشار إلى أمازيغية أبوليوس، و لم يشر إلى اللغة المستعملة في كتابه "الحمار الذهبي"، هل كتب أفولاي بخط تيفيناغ أم باللغات المجاورة لمملكة نوميديـا كاللاتينية و اليونانية؟! يقول محمد شفيق عن أبوليوس بأنه " اتخذ الرواية الطويلة النفس مطية لوصف الأوضاع الاجتماعية، و انتقادها في سخرية حينا، وفي شدة وصرامة أحيانا، فدافع عن المستضعفين و طرق بكيفية غير مباشرة موضوعات فلسفية مظهرا لنزعته الصوفية" (26).
و هناك باحثون آخرون ذهبوا الى أن الرواية كتبت باللغة اللاتينية، ومنهم إميـل فاگيـه (Emile Faguet)، وغنيمي هلال ، وحميد لحميدانـي وعز الدين المناصرة(27)، بيد أن محمد حندايـن أشار إلى أمازيغية الكتابة التي وظفها أفولاي، لأن الأمازيغيين مارسوا أدبا رفيعا قبل 3000 (ق.م)،و كتبوا بحروفهم "تيفينـاغ" و نافسوا الدول المجاورة كالفينيقيين و الرومان، و قاوموا محاولات طمس هوية أدبهم الأمازيغي،كما مارسوا المثاقفة مع الشعوب المجاورة ، وفشلت ثقافة" الرومنة" أمام قوة الأدب الامازيغي ، و يكفي أن نأخذ مثالا لذلك الشخصية القوية "لأفولاي" Appulée الذي تعلم كثيرا من اللغات، و ألف كتبا عديدة أشهرها كتاب "الحمار الذهبي" الذي أثر بواسطته على الرواية العالمية القديمة (28).
و يرى محمد حنداين أن الأدب الامازيغي، لغة و كتابة، تعرض للتحريف و التزوير من قبل المحتلين وخاصة الرومان معتمدا على ما أثبته مرمول في كتابه "عن أفريقيا"، لما استشهد بقولة ابن الرقيق "إن الرومان طمسوا العناوين، و الحروف القديمة، التي وجدوها في أفريقيا عندما احتلوها، ووضعوا مكانها عناوينهم و حروفهم، حتى يخلدوا وحدهم الأمر المعهود و عند الفاتحين" (29) ،و يضيف الباحث أن الأدب المغربي القديم "كان متقدما يضاهي و ينافس أدب الشعوب المجاورة، لكنه تعرض لطمس شديد بفعل الهجمات المتتالية التي تعرضت لها منطقة شمال أفريقيا.
و يتعين على الباحثين المغاربة و غيرهم أن يسعوا الى نفض الغبار عن هذا الجانب من الأدب المغربي للمساهمة في تأسيس فكر مغربي جديد متميز" (30).
ويرى علي فهمي خشيم أن أبوليوس جمع في روايته بين لغات عدة بما فيها الأمازيغية واللاتينية واليونانية. إذ يقول أبوليوس:"أنا أدخلت إلى اللغة اللاتينية تعبيرات علمية ليست موجودة في هذه اللغة اللاتينية. أنا أدخلتها. أنا الشرقي العربي، غير الروماني، أثريت اللغة اللاتينية بترجمة مصطلحات من اللغة اليونانية إلى اللغة اللاتينية"(31 ).
و في رأيي أن أفولاي كغيره من رواد الثقافة الأمازيغية، عبروا باللغة اللاتينية لأنها لغة المستعمر التي فرضت على أبناء نوميديـا و أهل قرطاج، و بها دخل الأدب العالمي و بها درس و درّس حينما زار إيطاليا، و عاد الى قرطاجنة ليدرّس بها الفنون و الفلسفة و الأدب.
ويقول عباس الجراري "و قد احتفظ التاريخ بأسماء غير قليل من الأدباء والفلاسفة و علماء الدين الذين تخرجوا في هذا التعليم (الروماني) من مختلف أقطار الشمال الإفريقي، و عبروا باللاتينية في الغالب، لأنها كانت لغة الفاتح المستعمر، و ليس لأن اللغة الوطنية كانت قاصرة كما ذهب جوليـان"(32)، و بالتالي، كانت الحكومة الرومانية ترسل المفكرين الأمازيغيين الذين ينحدرون من الطبقات الثرية إلى مدارسها ومعاهدها العليا، و تعلمهم حسب مناهج التعليم الروماني، و تفرض عليهم اللاتينية لغة و كتابة علاوة على فرض آلهاتها الوثنية عليهم، بينما الطبقة الشعبية كانت تختار آلهتها البربرية و لغتها المحلية في التعبير و الكتابة ، و في هذا يقول عباس الجراري: " إن الرومان أثروا على طبقة معينة من البربر ذات مصالح، هي الطبقة الأرستقراطية التي كانت تختلف إلى مدارسهم، و تتسمى بأسمائهم، و تتكلم اللغة اللاتينية، و تعبد الآلهة الرومانية مثل : مارس و هرمـس و سيريـس و باخـوس و أسكولاب و أيزيـس و أوزيريـس و متـرا" (33). أما الطبقات الشعبية «فقد ظلت تقدس الآلهة الفينيقية و إن أخفتها تحت ستار أسماء جديدة. فبعل حمـون كان يعبد تحت اسم سترنـس أغسطـس، و تانيـت كان يعبد تحت اسم كيلتيـس، فضلا عن أن تلك الطبقات حافظت على آلهتها البربرية المحلية كما كورتـا و يونـا و ماكورفـوس و ماتيـلا، وفيهينـا، و بونشـور و فارسيسيمـا" (34).
و على الرغم من استعداد المغاربة لتقبل فكرة الوحدانية على المستوى الديني، فإنهم لم يهتموا بالمسيحية الرومانية كثيرا والتي " لم تنتشر إلا عند النخبة المتعلمة في المدارس الرومانية، حيث كان التعليم يهدف الى تكوين أطر لتسيير الإدارة المحلية باللغة اللاتينية، و كانت مناهجه تقتضي تدرج التلميذ من تعلم القراءة و الكتابة و الحساب الى النحو و الآداب و الموسيقى و العروض و الفلسفة و الفلك و الرياضيات. و ينتقل بعد ذلك الى مدارس أعلى كانت تؤسس في أهم المدن، و فيها يتعلم الشعر و الخطابة و ما يتطلبان من بلاغة و جدل و ارتجال، و قد ينتقل بعد ذلك الى رومة أو غيرها من مدن الدولة المركزية لتنمية معارفه أو تولي بعض المناصب" (35).
6- تأثير رواية "الحمار الذهبي" على الرواية الغربية والعربية:
من الطبيعي أن تتأثر رواية " الحمار الذهبي" بالروايات اليونانية واللاتينية والأمازيغية في تلك الفترة بالذات، و يقول غنيمي هلال: هناك "أصل يوناني مجهول للمؤلف" (36)، ثم أكد مرة أخرى تأثر القصة اللاتينية بالقصة اليونانية و أشهر قصة تمثل ذلك التأثر هي قصة"المسخ" أو رواية "الحمار الذهبي" التي ألفها أبوليوس Apulius في النصف الثاني للقرن الثاني بعد الميلاد (37)، و التي تتناص مع عناصر قصصية وخرافية وأسطورية وعجائبية موجودة في الإبداع اليوناني ، وقد كانت السبب في ظهور النثر القصصي فيما بعد. وكانت القصة اليونانية ذات طابع ملحمي، حافلة بالمغامرات الغيبية، زاخرة بالخرافة والسحر و الأمور الخارقة. ويتمثل النموذج العام لأحداث قصص ذلك العهد في افتراق حبيبين، تقوم الأخطار المروعة و العقبات المؤسسة حدا فاصلا بينهما، و يفلتان منها بطرق تفوق المألوف ثم تختتم القصة ختاما سعيدا بالتقاء الحبيبين (38).
أما عن قيمة رواية أفولاي " الحمار الذهبي" فإنها أثرت في كثير من الروايات الغربية ولاسيما المعاصرة منها، إذ أمدتها بفكرة المسخ وبالتقنية الفانطاستيكية التي تستند إلى العجائبية و الأحداث الغريبة، و تداخل الأزمنة و جدلية الواقع و الوهم و اللامعقول.
هذا، و إن فكرة المسخ هذه قد استغلت في الأدب الأوروبي المعاصر بدءا من القرن العشرين على يد بعض الروائيين دون الاحتفاظ "بالطابع الخرافي الذي كان يلف فكرة المسخ، فإذا كانت الآلهة في الأساطير القديمة هي التي تنزل عقابا من هذا النوع من الأشرار من أهل الأرض، فان الأديب المعاصر ينزل هذا العقاب الوهمي على أبطاله المنبوذين وسط مجتمع يرفضهم أو يرفضونه، و كثيرا ما يجعل المسخ ينسحب على جميع الناس و الأشياء" (39).
و من الذين استفادوا من تقنية الأسطرة و فكرة المسخ نجد "جيمـس جويـس" James Joyce و "كافكـا" Kafka وگوي دو موباسان وألفونس دوديه...
وقد تأثر أيضا فرانـز كافكـا Kafka برواية أفولاي على المستوى الغرائبي خاصة في روايته "التحول Métamorphose "، إذ تبدأ رواية كافكـا بالعبارة التالية :" ذات صباح بعد الاستيقاظ من حلم مزعج فتح غريغـوار Grégoire Samsa عينه في سريره و قد تحول إلى حشرة " (40) .
ومن أهم النصوص الفانطاستيكية في الثقافة الغربية نستحضر قصة" الجسد Le corps " لروبيـر شيكلـي Robert Shekley، و هذه القصة من النوع القصير، و تتمثل غرائبيتها في عملية عجيبة لزرع جسد حيوان في عقل بشري" (41).
و انعكس هذا الملمح الفانطاستيكي على أسلوب الرواية العربية بصفة عامة والمغربية بصفة خاصة من خلال الاحتكاك والمثاقفة مع الآداب الغربية والاستفادة من التقنيات السردية في الرواية الحداثية الأوربية.
و من النصوص العجائبية العربية القديمة نجد "ألف ليلة و ليلة"، وقصة "سيف بن ذي يزن"، وما كتبه الرحالة العرب وخاصة ما أورده ابن بطوطة من ظواهرعجائبية في كتابه "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار".
و تحضر غرائبية أفولاي بشكل جلي في الرواية المغربية خاصة في رواية محمد زفزاف "المرأة و الوردة"، و هي من "النماذج الروائية الأولى في المغرب التي ظهرت فيها أساليب الرواية الأوروبية المعاصرة، و من هذه الأساليب التي استثمرتها "المرأة و الوردة" مسألة المسخ (...) و هي وسيلة فنية وظفها الكاتب من أجل تصوير حالة بطله، و هو يتعامل مع الغرب، و مع اللذائذ الحسية التي كان يغرق فيها، و استخدام الكاتب لهذا الأسلوب في الرواية يرمي الى إلقاء الضوء أيضا على طبيعة العلاقة التي كانت تربط البطل بعالم الغرب، فلكي يصور ضياع "محمد" في أروبا جعله ينظر الى الناس من حوله، و كأنهم مسخوا الى حيوانات، إلى قرود، خصوصا في تلك المدينة الإسبانية السياحية التي تجمع الناس من أقطار مختلفة"(42)
و قد دفع هذا الشعور البطل لكي يحس بالاغتراب الوجودي مثل الذي كان يحس به في وطنه. و تتجلى عجائبية رواية زفزاف بكل وضوح في هذه العبارة المحورية "تخيلت أن الناس الآن قرودا لأنهم يستطيعون أن يفهموا بعضهم البعض إلا بالحركات"(43).
و من الروائيين المغاربة الذين تأثروا كذلك بالحمار الذهبي محمد الهرادي في روايته (أحـلام بقـرة)(44)، وبنسالم حميش في روايته" سماسرة السراب"و" محن الفتى زين شامة"، ومحمد عز الدين التازي في روايتيه " المباءة" و" رحيل البحر"، وشغموم لميلودي في"عين الفرس"، ويحيى بزغود في روايته الرائعة" الجرذان".
ومن الروايات العربية التي استفادت من المنحى الفانطاستيكي رواية"الحـوات والقصـر" للطاهر وطار، و"التجليـات" لجمال الغيطاني، و"حمائـم الشفـق" لخلاص الجيلاني، و"ألف و عـام من الحنيـن" لرشيد بوجدرة، و"اختـراع الصحـراء " L’invention du désert للطاهر جاووت، و "هابيـل" لمحمد ديب، و"النهـر المحول" لرشيد ميموني، و"ألف ليلة و ليلتان" لهاني الراهب" ....
استنتاج وتركيب:
و خلاصة القول : إن رواية أفولاي "الحمار الذهبي" سواء أكتبت باليونانية أم باللاتينية أم بتيفيناغ، فإنها إبداع عالمي يعبر عن هوية أمازيغية مغاربية نوميدية. وقد أثرت عجائبية هذه الرواية الفانطاستيكية على الأدب القديم و الرواية الغربية الحديثة و الرواية العربية المعاصرة ولاسيما المغاربية منها. و لا ننسى أن نقول كذلك بأن هذه الرواية من أقدم الروايات الأمازيغية التي تحسب على الأدب الأمازيغي لا على الأدب اللاتيني كما يذهب إلى ذلك إميـل فاگيـهFaguet في كتابه "مدخل إلى الأدب" الذي حاول أن يطمس أمازيغية هذه الرواية ذات الشهرة العالمية ليلصق عليها الهوية اللاتينية ليجرد الأمازيغيين من كل الفضائل الإيجابية و مهارات الابتكار و الإبداع و لينسبها إلى اللاتينيين و الرومان. ولم تقف هذه الرواية عند عتبة التقليد و استلهام الخرافة اليونانية، بل كانت آية في الروعة و الخلق والتناص و الإبداع العالمي قصة وصياغة وسردا.
أما مسألة التأثر بالأدب اليوناني أو اللاتيني فهي مسألة طبيعية تتحكم فيها ظاهرة التناص، لأن ليس هناك إبداع بدون نسب جينيالوجي أو ليس هناك أدب خلق من عدم ، فالتلاقح الفكري يتحكم في جميع التمظهرات النصية البشرية خلقا و تحويلا و سطحا و عمقا.
تعد رواية" الحمار الذهبي" للوكيوس أبوليوس أو أفولاي أول نص روائي في تاريخ الإنسانية . وقد وصلتنا هذه الرواية كاملة، وهناك روايات قبلها لكنها وصلت ناقصة. ويعتبر هذا العمل الأدبي الإبداعي أيضا أول نص روائي فانطاستيكي في الأدب العالمي. ولايمكن أن نتفق مع الذين ذهبوا إلى أن رواية "دونكيشوت"(1604م) لسرفانتيس - الكاتب الإسباني- أول نص روائي عالمي، أو مع الذين أثبتوا أن بداية الرواية قد انطلقت مع الرواية التاريخية الإنجليزية في القرن الثامن عشر(والتر سكوت ، ودانيال ديفو، وفيلدينغ...) . زد على ذلك أن رواية "الحمار الذهبي " هي المنطلق الحقيقي لظهور الرواية الأمازيغية في حين أن أعمال تيرينيس آفر تشكل البداية الفعلية للمسرح الأمازيغي في شمال أفريقيا(1). إذا، من هو أبوليوس؟ وماهويته؟ وما خصائص روايته" الحمار الذهبي" دلالة وصياغة ومقصدية وكتابة؟ وأين يتجلى تأثيرها على الأدب المغربي والعربي بصفة خاصة والأدب العالمي بصفة عامة؟ هذه هي الأسئلة التي سوف نرصدها في موضوعنا هذا.
تمهيد:
تعد رواية" الحمار الذهبي" للوكيوس أبوليوس أو أفولاي أول نص روائي في تاريخ الإنسانية . وقد وصلتنا هذه الرواية كاملة، وهناك روايات قبلها لكنها وصلت ناقصة. ويعتبر هذا العمل الأدبي الإبداعي أيضا أول نص روائي فانطاستيكي في الأدب العالمي. ولايمكن أن نتفق مع الذين ذهبوا إلى أن رواية "دونكيشوت"(1604م) لسرفانتيس - الكاتب الإسباني- أول نص روائي عالمي، أو مع الذين أثبتوا أن بداية الرواية قد انطلقت مع الرواية التاريخية الإنجليزية في القرن الثامن عشر(والتر سكوت ، ودانيال ديفو، وفيلدينغ...) . زد على ذلك أن رواية "الحمار الذهبي " هي المنطلق الحقيقي لظهور الرواية الأمازيغية في حين أن أعمال تيرينيس آفر تشكل البداية الفعلية للمسرح الأمازيغي في شمال أفريقيا(1). إذا، من هو أبوليوس؟ وماهويته؟ وما خصائص روايته" الحمار الذهبي" دلالة وصياغة ومقصدية وكتابة؟ وأين يتجلى تأثيرها على الأدب المغربي والعربي بصفة خاصة والأدب العالمي بصفة عامة؟ هذه هي الأسئلة التي سوف نرصدها في موضوعنا هذا.
1- هوية أبوليوس:
ولد أبوليوس أو أبولاي، أو أفولاي (Apuleius, Apulée) الأمازيغي في أوائل القرن الثاني حوالي 125 م وتوفي حوالي170م إبان الامتداد المسيحي. و كان يعترف بثقافته الإفريقية و هويته الامازيغية، إذ كان يقول: " لم يتملكني في يوم من الأيام أي نوع من الشعور بالخجل من هويتي و من وطني"(2)، و يقول أيضا، بكل اعتزاز و افتخار: "أنا نصف كدالي و نصف نوميدي"(3). بيد أن ثمة باحثين أدرجوه ضمن الأدباء اللاتينيين، و نزعوا عنه الهوية الأمازيغية. و من بين هؤلاء إميـل فاگيـه Emile Faguet(4) الذي أدرج أبوليوس ضمن اللاتين المقلدين للإغريق. و قال عنه "أما أبوليس في روايته "الحمار الذهبي"، فلا يعدو أن يكون روائيا هوائيا بالغ التعقيد شغوفا بكل شيء، و خاصة بالأشياء الفريدة في نوعها قويا مليا و صوفيا في ساعاته، و جماع القول: إنه مربك جدا"(5)، و منهم كذلك الدكتور محمد غنيمي هلال عندما نص على تأثر القصة اللاتينية بالقصة اليونانية، و خير من يمثل هذا التأثر قصة "المسوخ" أو "الحمار الذهبي" التي ألفها أبوليس Apulius في النصف الثاني من القرن الثاني بعد الميلاد، و لها أصل يوناني مجهول للمؤلف(6).
ولقد ذهب الباحث المغربي حميد لحميدانـي نفس المذهب عندما جرد أبوليوس من هويته الأمازيغية، و أدرجه ضمن الأدب الروماني القديم الذي كان يعتمد اللاتينية لغة ، وقد أشار إلى أن "لوكسيوس" بطل رواية المسوخ Les métamorphoses للقصاص اللاتيني "أبوليوس" Apulius يفسر ذلك التحول الفانطاستيكي الذي يطرأ على الإنسان فيصير دون طبيعته الإنسانية بالاستسلام للغرائز الحيوانية الدنيا(7).
و نجد من الذين دافعوا عن أمازيغيته محمد شفيق الذي أدرجه الى جانب المسرحي تيرنيسي آفـر أو تيرنتيـوس آفر Terentius Afer (185؟159 ق.م) ضمن أدباء الثقافة الامازيغية في عهد الوثنية الذين تثاقفوا مع الأدب الإغريقي و اللاتيني(8)، ونجد محمد حندايـن الذي اتخذ من أفولاي Apulée مثالا للشخصية الامازيغية القوية في الأدب العالمي القديم الذي تعلم كثيرا من اللغات و ألف كتبا عديدة أشهرها روايته "الحمار الذهبي" التي أثر بواسطتها على الرواية العالمية القديمة، وأبهر الرومان و الإغريق الى درجة اتهامهم له بالسحر(9). ونفس الموقف سيتخذه الكاتب الليبي الدكتور علي فهمي خشيم حينما اعتبر أبوليوس كاتبا إفريقيا أمازيغيا وعروبيا، كان ينتقل بين الجزائر وقرطاج وليبيا، وعد " الحمار الذهبي" أول نص روائي عربي (10) . ويذهب كذلك عباس الجـراري إلى أن التاريخ احتفظ بأسماء غير قليل من الأدباء و الفلاسفة و علماء الدين الذين تخرجوا في هذا التعليم من مختلف أقطار الشمال الإفريقي، و عبروا باللاتينية في الغالب لأنها كانت لغة الفاتح المستعمر، و ليس لأن اللغة الوطنية كانت قاصرة كما ذهب إلى ذلك أندريه جوليـان(11). و يدرج المؤرخ الفرنسي شارل أندري جوليـان (Charles André Julien) المتخصص في تاريخ أفريقيا الشمالية القديمة مبدعنا أبوليوس ضمن أدباء إفريقيا إذ قال" كان أبوليوس المولود حوالي سنة 125م من أشهر الكتاب الأفارقة"(12).
ويتبين لنا مما سبق، أن هوية أبوليوس جزائرية المولد، وأفريقية المنبت، وأمازيغية الأصل، ولكنها رومانية الجنسية، وإغريقية الثقافة والفكر، وشرقية المعتقد.
2- نشأة أبوليوس:
نشأ لوكيوس أبوليوس أو أبوليوس الماضوري في أسرة أرستقراطية في مدينة مـداوروش بالجزائر قرب سوق هراس سنة 125م. إذ كان أبوه أحد الحاكمين الاثنين في أوائل القرن الثاني في هذه المنطقة، و كان أبوليوس أشهر كتاب و شعراء هذا العهد.
لقد درس هذا الأديب الأمازيغي الأصل بقرطاج، حيث أخذ من كل الفنون بطرف، و كانت هذه المدينة الإفريقية عاصمة فكرية و سياسية في آن معا، و نبغ فيها هذا الأديب، وتخصص في المسرح و نبغ فيه إذ كان القرطاجيون يهتفون به في المسرح، و كان يقول لهم:" إني لا أرى في مدينتكم إلا رجالا كرعوا من مناهل الثقافة، وتبحروا في جميع العلوم: أخذوا العلم صغارا، و تحلوا به شبانا ودرسوه شيوخا، إن قرطاج لهي المدرسة المقدسة في مقاطعتنا، و هي عروس الشعر في إفريقية، و هي أخيرا، ملهمة الطبقة التي تلبس الحلة"(13). وقد تابع أبوليوس دراساته العليا في اليونان ( أثينا) وإيطاليا و آسيا الصغرى، و لقد أعجب بالفلسفة السوفسطائية ، و الفلسفة الأفلاطونية المحدثة، والفلسفات ذات الطبيعة الصوفية الروحانية التي تضمن للمؤمنين حياة أبدية سعيدة(14).
و بعد عودته الى بلده، اتهم هناك بممارسة السحر، فدافع عن نفسه بصلابة، و ألف في الموضوع كتابا عنوانه:" في السحرMagicae."(15).و سبب هذه التهمة أنه صادف أثناء إقامته في طرابلس أن وقع في مغامرة غريبة،" ذلك أنه ما أن تزوج من أم أحد أصدقائه، و كانت إلى ذلك الوقت ممتنعة امتناعا شديدا من التزوج ثانية، حتى اتهم بأنه سحرها، و قد أخذ أحد المحامين على نفسه، أن يقيم الدليل على أن يدافع عن نفسه دفاعا رائعا. لم يكن كله مقتنعا و أنحى على خصومه باللائمة، لأنهم خلطوا بين الفلسفة و السحر، و قد حرر خطابه بعد ذلك في صيغة إيجابية، فأصبح يعرف بالأبولوجيا (Apologie)(16).
و لم تعق هذه التهمة مسيرته الفكرية، إذ سرعان ما توجه إلى قرطاج لممارسة العلم و تلقين الدروس لطلبة الثقافة و الأدب، فأصبح قبلة الأنظار في هذه المدينة، و المحاضر المحبوب الذي يعالج جميع المواضيع وخاصة الفلسفية منها (17).
وعليه، فلقد نعت أبوليوس بمواصفات عدة، إذ كان غريب الأطوار و كثير المتناقضات فهو جدي و طائش و متطير و شاك و معجب بنفسه، و كان يدافع عن" المستضعفين" كثيرا.
3- مؤلفات أبوليوس:
كان أبوليوس كاتبا مرموقا في عصره بين أدباء الثقافة العالمية، إذ نافس اللاتينيين و الرومانيين و اليونانيين على الرغم من تأثره بهم خلقا وتناصا ولاسيما في روايته الفانطاستيكية التي ألفها في أحد عشر جزءا، و بها وضعه تاريخ الفكر في مصاف كبار الكتاب العالميين الخالدين في كتابه ذاك الذي يسمى "التقمصات Les métamorphoses أو الحمار الذهبي (18)، علاوة على كونه مسرحيا و شاعرا كبيرا خاصة في ديوانه (الأزاهير) Florides ، وهو عبارة عن مقتطفات شعرية ألقاها في قرطاج وقد ترجمها إلى اللغة العربية الدكتور فهمي خشيم . ويضم هذا الديوان ثلاثا و عشرين قطعة من خطاباته تتفاوت طولا وقصرا، جمعها أحد المعجبين به" كباقة" جمعت أجمل زهور بلاغته، و كان يتبجح فيها بأنه يتقن الفنون على اختلافها، وكان يتوجه لمساعد القنصل في شيء من الخيلاء البريئة قائلا:" أعترف بأني أوثر من بين الآلات شق القصب البسيط، أنظم به القصائد في جميع الأغراض الملائمة لروح الملحمة، أو فيض الوجدان، لمرح الملهاة أو جلال المأساة، و كذلك لا أقصر لا في الهجاء و لا في الأحاجي و لا أعجز عن مختلف الروايات، و الخطب يثني عليها البلغاء، و الحوارات يتذوقها الفلاسفة. ثم ماذا بعد هذا كله؟إني أنشئ في كل شيء سواء باليونانية أم باللاتينية بنفس الأمل ونفس الحماس و نفس الأسلوب"(19).
وقد أطلقت على روايته الغرائبية (الحمار الذهبي) تسميات عدة من بينها: المسوخ Les métamorphoses ، وقصة المسخ كما عند حميد لحمداني، أو "الحمار الذهبي" ( أو التحولات ) كما عند عمار الجلاصي، أو الحمار الذهبي فحسب كما لدى أبو العيد دودو ، أو" تحولات الجحش الذهبي" كما عند فهمي علي خشيم. وأسميها – شخصيا- رواية" الحمار الوردي"، لأن كلمة الورد أو الوردي تتكرر مرارا في متن الرواية، إذ وصف لوكيوس بأنه وردي البشرة، ووصفت حبيبته بأنها وردية اليد، والأكثر من ذلك أنه كان يحلم بالورد طيلة فترة تحوله، ويفر كلما رأى الورد أو ما يشبه الورد لأنه يجسم الخلاص بالنسبة إليه. وهناك من ترجم هذه الرواية عن اللاتينية كعمار جلاصي وأبو العيد دودو، وهناك من ترجمها عن الإنجليزية كعلي فهمي خشيم.
ومن كتبه الأخرى "دفاع صبراتة" الذي ترجمه الدكتور فهمي علي خشيم، و" في السحر"، و كتاب"شيطان سقراط" وهو عبارة عن كوميديا ساخرة تختلط فيها الفلسفة بالسخرية، وقد شرع الكاتب الليبي فهمي علي خشيم في ترجمته إلى اللغة العربية.
3- مضامين رواية الحمار الذهبي:
ظهرت قصة أبوليوس في مسخ الإنسان إلى حيوان ثم عودته الى حالته الأولى في أواخر القرن الأول بعد الميلاد أي حوالي سنة 170 م في قرطاج، و راوي هذه القصة هو لوسيــان حيث حوّل البطل لوكسيوس إلى حمار الذي سيعود إلى صورته الآدمية الأولى بعد مغامرات عديدة تتخللها قصص جزئية متداخلة، تضمينا و تشويقا وتوليدا كقصة "بسيشـية وكوبيـدون" الرائعة في أبعادها الفاطاستيكية والأخلاقية.
هذا، وإن رواية الحمار الذهبي ذات طابع ملحمي و فانطاستيكي غريب، حيث تعتمد على فكرة المسخ و تحويل الكائن البشري الى حيوانات أو أشياء على غرار الإبداعات اليونانية . إذ يتحول لوكسيوس في هذه الرواية إلى حمار بسبب خطإ حبيبته فوتيس التي كان يحبها لوكيوس كثيرا حينما ناولته مادة دهنية في ملك سيدتها بامفيلا زوجة ميلون التي تمارس السحر في غرفتها السرية، وبهذه المادة يتحول الكائن البشري إلى أنواع من الطيور والكائنات الخارقة التي تجمع بين الغرابة والتعجيب. وعندما سمع لوكيوس الشاب أسرار سحر هذه المرأة دفعه تطفله وفضوله إلى أن يأمر فوتيس بجلب دهن الساحرة ليجربه قصد التحول إلى طائر لينأى عن الناس ويهاجر حيال عالم المثل بعيدا عن عالم الفساد والانحطاط البشري. بيد أن فوتيس جلبت له مادة دهنية سامة تحوّل الإنسان إلى حمار. و بعد مغامرات صعبة ذاق فيها لوكيوس أنواعا من العذاب والهلاك وتعرف عبرها مكائد البشر وحيلهم يعود إلى حالته الآدمية الإنسانية بعد أن تدخلت الآلهة إيزيس لتجعله راهبا متعبدا وخادما وفيا لها.
و بتعبير آخر، إن لوكسيوس بطل القصة، اتجه نحو مدينة "تسالـي" لأمور تخص أسرته، فنزل على فتى بخيل ضيفا له، فكانت لذلك المضيف الشحيح امرأة ساحرة تتحول إلى أشكال مختلفة إذا دهنت نفسها بأنواع من الزيوت الخاصة بالمسخ و التحويل، فطلب "لوكسيوس" من عشيقته فوتيس أن تدهنه ليتحول الى مخلوق آخر، بيد أنه تحول إلى حمار، بعدما أن أخطأت فوتيس خادمة بامفيلا الساحرة في اختيار المحلول المناسب للمسخ، و هكذا يتعرض لوكسيوس/ الحمار لكثير من العذاب جوعا وقسوة فظل أسير المعاناة والتنكيل و الاضطهاد في أيدي الكثير من البشر بما فيهم اللصوص والرهبان .
و بعد انتقاله من يد الى يد، كان يطّلع في مغامراته السيزيفية على كثير من خبايا البشر وقصصهم وحوادثهم وتجاربهم، و يعرف ضروب الفسق الآدمي، علاوة على العار، و ضربات العصا و الظلم في مخاطرات كثيرة الى درجة كرهه للإنسان الذي انحط انحطاطا خلقيا، و لم يتحول الى حالته الأولى إلا على يد كاهن يحرس معبد الآلهة "ايزيـس".
إن قضية المسخ قديمة إذ وجدت في الملاحم القديمة حيث كان الإنسان يتحول إلى قرد أو حيوان أو سمكة أو شجرة أو حجرة، و يستند هذا المسخ في القديم الى طقوس و عقائد شعبية، ففي" أوديسيـة" هوميـروس الشاعر اليوناني مسخ أصحاب "يوليـوس" إلى خنازير. كما توجد في أشعار يونانية قديمة قصائد و مقطوعات موضوعها قصص المسخ التي ضاع منها الكثير.
و يعبر تحول لوكسيوس إلى حمار عن فكرة المسخ الحيواني والعقاب القاسي لكل متطفل فضولي لم يرض برزقه وبشريته وإنسانيته، كما يحيل على ذلك الجزاء الذي يستحقه الزناة ومنحطو الأخلاق ،ذلك أن لوكسيوس سيدخل في علاقات جنسية غير شرعية مع خادمة مضيفه ميلون، وقد يدل هذا المسخ على انحطاط الإنسان وعدم سموه أخلاقيا. ولن يعود البطل إلى حالته البشرية إلا بعد التوبة والدعاء باسم الآلهة والتخلص من نوازعه الإيروسية وانفعالاته البشرية العدوانية وتدخل المنقذة إيزيس. لذلك نلفي الكاتب يشيد بإيزيـس الآلهة المخلصة و بالديانة الشرقية وفي نفس الوقت يسفه بالديانات الرومانية وانحطاطها الأخلاقي بله عن و صفه لبعض العادات و التقاليد السائدة في عصره وهجوها نقدا وتسفيها. و قد آل هذا التحول الفانطاستيكي إلى معنى رمزي يجسد انحطاط الإنسان ونزوله إلى مرتبة الحيوان حينما يستسلم لغرائزه وأهوائه الشبقية وانفعالاته الضالة، بيد أن النجاة في الرواية لن تتحقق سوى عن طريق المحن والابتلاءات والاختبارات المضنية و الاستعانة بالتوبة واسترضاء الآلهة.
و من القصص الدخيلة الهامة في الرواية قصة الفاتنة "بيسيشية و حب الإله "كوبيـدون" لها، ثم هيامها به، و تعرضها لكثير من المحن في سبيل ارتقائها إلى مرتبة الخلود و هي تشغل في القصة جزءا من الكتاب الرابع ثم الكتاب الخامس و جزءا من السادس، و قد اتخذت فيما بعد رمزا للحب الإلهي و ارتقائه بالنفس الى مرتبة الخلود (20).
و عليه، فالحمار الذهبي باعتباره نصا سرديا خارقا، يتضمن خمس لحظات فنية و جمالية تكوّن ما يسمى بالحبكة السردية للرواية:
1- لحظة البداية المتوازنة:
في هذه الفترة يعيش البطل – الراوي – حياة متوازنة، من سماتها الاستقرار و التعقل بالرغم من الصعوبات المحيطة به ، و هكذا لم يكن هناك ما يعكر صفو لوكيـوس مع حبيبته فوتيـس بالرغم من عصابة مدينة هوباتـا التي يتلذذ لصوصها بقتل من يمر عليهم وسلب ممتلكاتهم وثرواتهم النفيسة.
2- لحظة التوتر الدرامي:
رغبة في معرفة أسرار السحر، والتطفل على عالم الساحرة بامفيلا زوجة ميلون، وتحقيق الطموح الصوفي والمجد عبر التحول إلى طائر للتخلص من عالم البشر والارتقاء إلى عالم المثل ، يتحول لوكيوس إلى حمار ذهبي عن طريق الخطإ ؛ لأن عشيقته فوتيس ناولته دهنا ساما لايحول الإنسان إلى طائركما كانت تظن عندما سحبته من صندوق سيدتها، بل يحول الإنسان إلى حمار أثناء مسح الجسد بذلك العقار العجيب. وعندما حاول لوكيوس أن يقلد الساحرة بامفيلا في حركتها لكي يطير مثل النسر، كان البطل قد تحول إلى حمار غريب:" أكدت لي ذلك مرارا، وتسللت وهي في غاية الاضطراب داخل الغرفة وأخرجت علبة من الصندوق.فاحتضنتها وقبلتها أولا داعيا أن تبارك طيراني. وبسرعة خلعت كل ملابسي ثم غمست يدي بلهفة، فاغترفت منها كمية وافرة من الدهان دلكت بها كل أعضائي، ثم أخذت أرفرف بذراعي كالطير في محاولات متتابعة. لكن لا ريش ولا زغب حتّى. بالعكس اخشوشن شعر بدني تماما إلى سبائب. وتيبست بشرتي الرقيقة إلى جلد غليظ وفي أطراف أكفي اتحدت كل الأصابع في حوافر ونبت لي في العصعص ذنب كبير. ها أنا ألان بوجه ضخم وفم عريض وخيشومين فاغرين ومشفرين متهدلين وأذنين مسبسبتين مع نماء مفرط. ولا أرى لي من عزاء على هذا التحول التعيس سوى نمو بعض أعضائي. وإن بت الآن عاجزا عن احتضان فوتيس الحبيبة.
أخذت أقلب البصر ولا وسلة للخلاص في كل أعضاء بدني. فلا أراني طيرا بل حمارا. فأهم بالشكوى مما فعلت فوتيس بي. لكني سلبت الحركة والصوت البشريين. فما أستطيع سوى مط شفتي والرنو إليها بعينين دامعتين. موجها إليها شكاتي الخرساء "(21).
من هذه العقدة التي تتمثل في التحول الفانطاستيكي والامتساخ الحيواني تبدأ لحظة اختلال التوازن الذي يحكم أغلبية القصص العجائبية.
3-لحظة الصراع:
تتمثل هذه اللحظة في صراع لوكسيوس مع الواقع المتعفن الذي لم يجد فيه سوى العذاب والضرب و الاحتيال والمكائد والفساد . إنه العالم المبرقش بالزيف والنفاق وتردي الإنسان.
4- لحظة الحل:
يتمثل حل الرواية في تحول لوكسيوس إلى إنسان بعد أن ساعدته إيزيس على ذلك.
5- لحظة النهاية:
تتمثل لحظة إعادة التوازن بعد أن عرف لوكيوس الحمار تجارب عديدة سواء أكانت مرة أم حلوة مع الرهبان السوريين والطحان والبستاني والجندي والأخويين الطاهيين إلى أن أنقذه من هذا المسخ الحيواني ذلك الكاهن المتعبد الذي حدثه عن قدرة الآلهة إيزيس، مما دفع صديقه لوكيوس إلى أن يناجيها أثناء حلم المنام كي تخلصه من هذه الورطة العويصة، ليتحول بعد ذلك إلى كينونته البشرية ويصبح خادما وفيا لمعبد الآلهة يخدمها بتفان وإخلاص، ومن ثم، أصبح راهبا فكاهنا كبيرا بعد أن ترقى في مراقي العبادة بعد أن اكتشف أسرار أوزيريس.
4- خصائص الرواية الفنية والمرجعية:
إن رواية "الحمار الذهبي" قراءة انتقادية ساخرة للمجتمع الروماني على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية. وتتجاوز هذه القراءة "الوعي البشري، و تنقب داخل المخبأ و داخل اللاوعي،و ينبغي قراءة الحمار الذهبي قراءة متأنية في سياق انهيار العقل و اضمحلال المركزية الرومانية و تفككها بحيث لم تعد روما هي معبد الثقافة و لكنها انسحبت أو بدأت تفعل ذلك تاركة مكانها لمناطق أخرى مثل أثينــا" (22).
تبدو الرواية في رحلتها الفانطاستيكية -على الرغم من تعدد أجزائها- نصا واقعيا ساخرا ينتقد العقل الظلامي و يسفه سلوكيات السحرة و أباطرة القضاء الروماني الذين اتهموا "لوكيوس" بالسحر و الشعوذة، ومن هنا فالرواية إعلان لانهيار الإمبراطورية الرومانية وإفلاسها أخلاقيا.
وتتضمن رواية أبوليوس فكرة المسخ لدى الإنسان القديم المرتبطة بفكرة عقاب الآلهة، فهي تنزله على من هم أكثر بعدا عن الروح الإلهية، و أكثر قربا من الحياة الحيوانية البئيسة (23).
و من خصائص رواية الحمار الذهبي أنها رواية عجائبية غرائبية يتداخل فيها الواقع مع الخيال، والسحر مع العقل، والوعي و اللاوعي. ويتبنى فيها الكاتب المنظور الذاتي والرؤية الداخلية وضمير المتكلم مع استخدام تقنية التوليد القصصي أو ما يسمى بالتضمين القصصي دون أن ننسى روعة الوصف وبراعة الأسلوب والإكثار من الإحالات والمستنسخات التناصية وتشغيل الخطابات الدينية والأدبية والفلسفية والصوفية والعجائبية والأسطورية .
وتقترب القصة من خلال خصائصها الفنية والبلاغية من أصلها الملحمي الشاعري "فالقاص ينهج منهج الشاعر في نزعته إلى الواقع، و القاص والشاعر كلاهما كان يتخيل، و يصف ما يتخيل، أيسر مما يصف الواقع و يواجهه، و كانت الجماهير في عصور الإنسانية الأولى تهتم بالأحداث العجيبة و بالأخطار الخيالية، على حين لا تعبأ بالواقع، و لا تحفل به، و بذلك سبقت القصة الخيالية إلى الوجود القصة الواقعية، كما سبق الشعر النثر الفني، إذ كان كل منهما يمتاح من مورد واحد" (24).
5- الحمار الذهبي ولغة الكتابة:
و عليه، فان السؤال الذي يتبادر الى أذهاننا: ما هي لغة الكتابة التي استعملها أفولاي الأمازيغي في روايته "الحمار الذهبي"؟ هل هي لغة الأم وهي الأمازيغية المكتوبة بخط تيفيناغ ؟ أم أنه استخدم اللغة اللاتينية التي درس بها؟ أم أنه وظف اللغة اليونانية التي كان يعشقها؟ ومن المعلوم أن أبوليوس كان يتقن عدة لغات عالمية في تلك الفترة وخاصة اليونانية لغة الفكر والفلسفة.
فليس هناك – حسب رأيي – جواب قاطع و دليل علمي حاسم للفصل في هذه القضية الشائكة، بل هناك افتراضات و تأويلات متضاربة تنقصها الحجج الدامغة، و البراهين العلمية الموضوعية التي تستند إلى الوثائق الحقيقة.
و لقد تعرض شارل أندري جوليـان لهذه القضية بقوله: " و لا تزال المناقشات متواصلة لمعرفة ما إذا كان أبوليوس ألف كتابه باليونانية أو لا ؟ و هل كان لحمار لوسيـان و المسوخ مصدر مشترك أم هل أن المرجع الأصلي هو قصة لوسيـان المطولة يكون "الحمار" ملخصا لها. ومهما يكن فان رواية أبوليوس المتنوعة الطبيعية المحشوة بدقائق العادات و التي تتابع فيها أحاديث الفسق و التقوى هي من الكتب اللاتينية القلائل التي لا تزال تقرأ من دون ملل.
و أنه يتعذر أن نعرف بالضبط هل أن كتاب إفريقية ينحدرون من معمرين رومان، و أغلب الظن أن أكثرهم كانوا من البربر المتأثرين بالحضارة الرومانية الذين عبروا في لغة الفاتحين عما كانت اللغة الليبية و حتى البونيقية قاصرة دونه" (25). أما محمد شفيق فلقد أشار إلى أمازيغية أبوليوس، و لم يشر إلى اللغة المستعملة في كتابه "الحمار الذهبي"، هل كتب أفولاي بخط تيفيناغ أم باللغات المجاورة لمملكة نوميديـا كاللاتينية و اليونانية؟! يقول محمد شفيق عن أبوليوس بأنه " اتخذ الرواية الطويلة النفس مطية لوصف الأوضاع الاجتماعية، و انتقادها في سخرية حينا، وفي شدة وصرامة أحيانا، فدافع عن المستضعفين و طرق بكيفية غير مباشرة موضوعات فلسفية مظهرا لنزعته الصوفية" (26).
و هناك باحثون آخرون ذهبوا الى أن الرواية كتبت باللغة اللاتينية، ومنهم إميـل فاگيـه (Emile Faguet)، وغنيمي هلال ، وحميد لحميدانـي وعز الدين المناصرة(27)، بيد أن محمد حندايـن أشار إلى أمازيغية الكتابة التي وظفها أفولاي، لأن الأمازيغيين مارسوا أدبا رفيعا قبل 3000 (ق.م)،و كتبوا بحروفهم "تيفينـاغ" و نافسوا الدول المجاورة كالفينيقيين و الرومان، و قاوموا محاولات طمس هوية أدبهم الأمازيغي،كما مارسوا المثاقفة مع الشعوب المجاورة ، وفشلت ثقافة" الرومنة" أمام قوة الأدب الامازيغي ، و يكفي أن نأخذ مثالا لذلك الشخصية القوية "لأفولاي" Appulée الذي تعلم كثيرا من اللغات، و ألف كتبا عديدة أشهرها كتاب "الحمار الذهبي" الذي أثر بواسطته على الرواية العالمية القديمة (28).
و يرى محمد حنداين أن الأدب الامازيغي، لغة و كتابة، تعرض للتحريف و التزوير من قبل المحتلين وخاصة الرومان معتمدا على ما أثبته مرمول في كتابه "عن أفريقيا"، لما استشهد بقولة ابن الرقيق "إن الرومان طمسوا العناوين، و الحروف القديمة، التي وجدوها في أفريقيا عندما احتلوها، ووضعوا مكانها عناوينهم و حروفهم، حتى يخلدوا وحدهم الأمر المعهود و عند الفاتحين" (29) ،و يضيف الباحث أن الأدب المغربي القديم "كان متقدما يضاهي و ينافس أدب الشعوب المجاورة، لكنه تعرض لطمس شديد بفعل الهجمات المتتالية التي تعرضت لها منطقة شمال أفريقيا.
و يتعين على الباحثين المغاربة و غيرهم أن يسعوا الى نفض الغبار عن هذا الجانب من الأدب المغربي للمساهمة في تأسيس فكر مغربي جديد متميز" (30).
ويرى علي فهمي خشيم أن أبوليوس جمع في روايته بين لغات عدة بما فيها الأمازيغية واللاتينية واليونانية. إذ يقول أبوليوس:"أنا أدخلت إلى اللغة اللاتينية تعبيرات علمية ليست موجودة في هذه اللغة اللاتينية. أنا أدخلتها. أنا الشرقي العربي، غير الروماني، أثريت اللغة اللاتينية بترجمة مصطلحات من اللغة اليونانية إلى اللغة اللاتينية"(31 ).
و في رأيي أن أفولاي كغيره من رواد الثقافة الأمازيغية، عبروا باللغة اللاتينية لأنها لغة المستعمر التي فرضت على أبناء نوميديـا و أهل قرطاج، و بها دخل الأدب العالمي و بها درس و درّس حينما زار إيطاليا، و عاد الى قرطاجنة ليدرّس بها الفنون و الفلسفة و الأدب.
ويقول عباس الجراري "و قد احتفظ التاريخ بأسماء غير قليل من الأدباء والفلاسفة و علماء الدين الذين تخرجوا في هذا التعليم (الروماني) من مختلف أقطار الشمال الإفريقي، و عبروا باللاتينية في الغالب، لأنها كانت لغة الفاتح المستعمر، و ليس لأن اللغة الوطنية كانت قاصرة كما ذهب جوليـان"(32)، و بالتالي، كانت الحكومة الرومانية ترسل المفكرين الأمازيغيين الذين ينحدرون من الطبقات الثرية إلى مدارسها ومعاهدها العليا، و تعلمهم حسب مناهج التعليم الروماني، و تفرض عليهم اللاتينية لغة و كتابة علاوة على فرض آلهاتها الوثنية عليهم، بينما الطبقة الشعبية كانت تختار آلهتها البربرية و لغتها المحلية في التعبير و الكتابة ، و في هذا يقول عباس الجراري: " إن الرومان أثروا على طبقة معينة من البربر ذات مصالح، هي الطبقة الأرستقراطية التي كانت تختلف إلى مدارسهم، و تتسمى بأسمائهم، و تتكلم اللغة اللاتينية، و تعبد الآلهة الرومانية مثل : مارس و هرمـس و سيريـس و باخـوس و أسكولاب و أيزيـس و أوزيريـس و متـرا" (33). أما الطبقات الشعبية «فقد ظلت تقدس الآلهة الفينيقية و إن أخفتها تحت ستار أسماء جديدة. فبعل حمـون كان يعبد تحت اسم سترنـس أغسطـس، و تانيـت كان يعبد تحت اسم كيلتيـس، فضلا عن أن تلك الطبقات حافظت على آلهتها البربرية المحلية كما كورتـا و يونـا و ماكورفـوس و ماتيـلا، وفيهينـا، و بونشـور و فارسيسيمـا" (34).
و على الرغم من استعداد المغاربة لتقبل فكرة الوحدانية على المستوى الديني، فإنهم لم يهتموا بالمسيحية الرومانية كثيرا والتي " لم تنتشر إلا عند النخبة المتعلمة في المدارس الرومانية، حيث كان التعليم يهدف الى تكوين أطر لتسيير الإدارة المحلية باللغة اللاتينية، و كانت مناهجه تقتضي تدرج التلميذ من تعلم القراءة و الكتابة و الحساب الى النحو و الآداب و الموسيقى و العروض و الفلسفة و الفلك و الرياضيات. و ينتقل بعد ذلك الى مدارس أعلى كانت تؤسس في أهم المدن، و فيها يتعلم الشعر و الخطابة و ما يتطلبان من بلاغة و جدل و ارتجال، و قد ينتقل بعد ذلك الى رومة أو غيرها من مدن الدولة المركزية لتنمية معارفه أو تولي بعض المناصب" (35).
6- تأثير رواية "الحمار الذهبي" على الرواية الغربية والعربية:
من الطبيعي أن تتأثر رواية " الحمار الذهبي" بالروايات اليونانية واللاتينية والأمازيغية في تلك الفترة بالذات، و يقول غنيمي هلال: هناك "أصل يوناني مجهول للمؤلف" (36)، ثم أكد مرة أخرى تأثر القصة اللاتينية بالقصة اليونانية و أشهر قصة تمثل ذلك التأثر هي قصة"المسخ" أو رواية "الحمار الذهبي" التي ألفها أبوليوس Apulius في النصف الثاني للقرن الثاني بعد الميلاد (37)، و التي تتناص مع عناصر قصصية وخرافية وأسطورية وعجائبية موجودة في الإبداع اليوناني ، وقد كانت السبب في ظهور النثر القصصي فيما بعد. وكانت القصة اليونانية ذات طابع ملحمي، حافلة بالمغامرات الغيبية، زاخرة بالخرافة والسحر و الأمور الخارقة. ويتمثل النموذج العام لأحداث قصص ذلك العهد في افتراق حبيبين، تقوم الأخطار المروعة و العقبات المؤسسة حدا فاصلا بينهما، و يفلتان منها بطرق تفوق المألوف ثم تختتم القصة ختاما سعيدا بالتقاء الحبيبين (38).
أما عن قيمة رواية أفولاي " الحمار الذهبي" فإنها أثرت في كثير من الروايات الغربية ولاسيما المعاصرة منها، إذ أمدتها بفكرة المسخ وبالتقنية الفانطاستيكية التي تستند إلى العجائبية و الأحداث الغريبة، و تداخل الأزمنة و جدلية الواقع و الوهم و اللامعقول.
هذا، و إن فكرة المسخ هذه قد استغلت في الأدب الأوروبي المعاصر بدءا من القرن العشرين على يد بعض الروائيين دون الاحتفاظ "بالطابع الخرافي الذي كان يلف فكرة المسخ، فإذا كانت الآلهة في الأساطير القديمة هي التي تنزل عقابا من هذا النوع من الأشرار من أهل الأرض، فان الأديب المعاصر ينزل هذا العقاب الوهمي على أبطاله المنبوذين وسط مجتمع يرفضهم أو يرفضونه، و كثيرا ما يجعل المسخ ينسحب على جميع الناس و الأشياء" (39).
و من الذين استفادوا من تقنية الأسطرة و فكرة المسخ نجد "جيمـس جويـس" James Joyce و "كافكـا" Kafka وگوي دو موباسان وألفونس دوديه...
وقد تأثر أيضا فرانـز كافكـا Kafka برواية أفولاي على المستوى الغرائبي خاصة في روايته "التحول Métamorphose "، إذ تبدأ رواية كافكـا بالعبارة التالية :" ذات صباح بعد الاستيقاظ من حلم مزعج فتح غريغـوار Grégoire Samsa عينه في سريره و قد تحول إلى حشرة " (40) .
ومن أهم النصوص الفانطاستيكية في الثقافة الغربية نستحضر قصة" الجسد Le corps " لروبيـر شيكلـي Robert Shekley، و هذه القصة من النوع القصير، و تتمثل غرائبيتها في عملية عجيبة لزرع جسد حيوان في عقل بشري" (41).
و انعكس هذا الملمح الفانطاستيكي على أسلوب الرواية العربية بصفة عامة والمغربية بصفة خاصة من خلال الاحتكاك والمثاقفة مع الآداب الغربية والاستفادة من التقنيات السردية في الرواية الحداثية الأوربية.
و من النصوص العجائبية العربية القديمة نجد "ألف ليلة و ليلة"، وقصة "سيف بن ذي يزن"، وما كتبه الرحالة العرب وخاصة ما أورده ابن بطوطة من ظواهرعجائبية في كتابه "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار".
و تحضر غرائبية أفولاي بشكل جلي في الرواية المغربية خاصة في رواية محمد زفزاف "المرأة و الوردة"، و هي من "النماذج الروائية الأولى في المغرب التي ظهرت فيها أساليب الرواية الأوروبية المعاصرة، و من هذه الأساليب التي استثمرتها "المرأة و الوردة" مسألة المسخ (...) و هي وسيلة فنية وظفها الكاتب من أجل تصوير حالة بطله، و هو يتعامل مع الغرب، و مع اللذائذ الحسية التي كان يغرق فيها، و استخدام الكاتب لهذا الأسلوب في الرواية يرمي الى إلقاء الضوء أيضا على طبيعة العلاقة التي كانت تربط البطل بعالم الغرب، فلكي يصور ضياع "محمد" في أروبا جعله ينظر الى الناس من حوله، و كأنهم مسخوا الى حيوانات، إلى قرود، خصوصا في تلك المدينة الإسبانية السياحية التي تجمع الناس من أقطار مختلفة"(42)
و قد دفع هذا الشعور البطل لكي يحس بالاغتراب الوجودي مثل الذي كان يحس به في وطنه. و تتجلى عجائبية رواية زفزاف بكل وضوح في هذه العبارة المحورية "تخيلت أن الناس الآن قرودا لأنهم يستطيعون أن يفهموا بعضهم البعض إلا بالحركات"(43).
و من الروائيين المغاربة الذين تأثروا كذلك بالحمار الذهبي محمد الهرادي في روايته (أحـلام بقـرة)(44)، وبنسالم حميش في روايته" سماسرة السراب"و" محن الفتى زين شامة"، ومحمد عز الدين التازي في روايتيه " المباءة" و" رحيل البحر"، وشغموم لميلودي في"عين الفرس"، ويحيى بزغود في روايته الرائعة" الجرذان".
ومن الروايات العربية التي استفادت من المنحى الفانطاستيكي رواية"الحـوات والقصـر" للطاهر وطار، و"التجليـات" لجمال الغيطاني، و"حمائـم الشفـق" لخلاص الجيلاني، و"ألف و عـام من الحنيـن" لرشيد بوجدرة، و"اختـراع الصحـراء " L’invention du désert للطاهر جاووت، و "هابيـل" لمحمد ديب، و"النهـر المحول" لرشيد ميموني، و"ألف ليلة و ليلتان" لهاني الراهب" ....
استنتاج وتركيب:
و خلاصة القول : إن رواية أفولاي "الحمار الذهبي" سواء أكتبت باليونانية أم باللاتينية أم بتيفيناغ، فإنها إبداع عالمي يعبر عن هوية أمازيغية مغاربية نوميدية. وقد أثرت عجائبية هذه الرواية الفانطاستيكية على الأدب القديم و الرواية الغربية الحديثة و الرواية العربية المعاصرة ولاسيما المغاربية منها. و لا ننسى أن نقول كذلك بأن هذه الرواية من أقدم الروايات الأمازيغية التي تحسب على الأدب الأمازيغي لا على الأدب اللاتيني كما يذهب إلى ذلك إميـل فاگيـهFaguet في كتابه "مدخل إلى الأدب" الذي حاول أن يطمس أمازيغية هذه الرواية ذات الشهرة العالمية ليلصق عليها الهوية اللاتينية ليجرد الأمازيغيين من كل الفضائل الإيجابية و مهارات الابتكار و الإبداع و لينسبها إلى اللاتينيين و الرومان. ولم تقف هذه الرواية عند عتبة التقليد و استلهام الخرافة اليونانية، بل كانت آية في الروعة و الخلق والتناص و الإبداع العالمي قصة وصياغة وسردا.
أما مسألة التأثر بالأدب اليوناني أو اللاتيني فهي مسألة طبيعية تتحكم فيها ظاهرة التناص، لأن ليس هناك إبداع بدون نسب جينيالوجي أو ليس هناك أدب خلق من عدم ، فالتلاقح الفكري يتحكم في جميع التمظهرات النصية البشرية خلقا و تحويلا و سطحا و عمقا.
http://www.4shared.com/get/ifKY0M5N/__________.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق