بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(هيت)... مدينة تجمع الفضائل
شبكة البصرة
ماهر حميد عبدالله
منذ أيلول 1980 وشعب العراق يعاني من آثار حروب خاضها على جبهات عدة، كان ختمها في نيسان 2003 بالعدوان باحتلال أمريكي- بريطاني للبلاد، في وقت ما زال عدد كبير من أبناء هذا الشعب لا يصدق أنه واقع تحت طائلته أو لنقل أنه لم يخرج بعد من لحظات الصدمة الأولى لغزو بغداد وان كان يرى وبشكل يومي برهان وجود هذا الاحتلال على أرضه بمئات ألوف الموتى والمعاقين ويشهد بصره عربة الاحتلال تجوب الأرض يمينا وشمالا ودبابات تملأ جوف الليالي عويلا كما الضباع التي كانت تهدد مدينتا قادمة من الغرب من جهة الصحراء ليلا قبل أكثر من ثلاثين عاما، بل إن الشعب سقط في حرب جديدة في وقت لم يفك بعد وثاق حصار طال أمده ثلاثة عشر عاما.
ضباع كنا نسمع عنها في صباحات أيامنا ونحن صغارا بأنها هجمت بستان الشيخ فلان أو اعترضت مزارعا خرج فجرا لحقله وآخر كان عائدا من سقي مزرعته عند جوف الليل، وذئاب غادرة تجوب ضواحي المدينة بحثا عن غنم قاصية شطت عن الرعيل كما شط عدد من أبناء البلاد هذه الأيام عن الصف فافترسته ذئاب الجيران أو أصبح أجيرا لها يقتل الأخوة ويعيث بالأرض الفساد.
رغم كل ما يحصل من سوء إفرازات الحروب، ما زال هناك في الأفق أمل أن يبقى جزء كبير من نسيج المجتمع العراقي متماسكا، متمسكا بالعرف والتقليد والطبائع الاجتماعية الرائعة التي تتطبعه بميزة الألفة والتعاون والتدافع لفعل الخير وهذا حال المدن الفاضلة.
(هيت)... مدينة تجمع الفضائل
كان والدي يجلس معي في سيارتي قبل 17 عاما حيث كنت استقله من محل عمله وسط مدينة (هيت) القديمة إحدى مدن محافظة الانبار الغربية، وقبل أن تدور عجلات السيارة مغادرين صوب المنزل وقت الظهيرة، أقبلت من غرب المدينة جمهرة من المواطنين تشيع جنازة قاصدة (الجامع الشرقي) للصلاة عليها، ومن عادتنا في المدينة أننا نقف إذا كنا سائرين رجالا أو ركبانا احتراما للجنازة ومرورها من أمامنا نقرأ سورة الفاتحة داعين للميت بالرحمة على أقل تقدير أو مشاركين في التشييع غالبا حتى ولو لبضع خطوات.
طلب والدي (رحمه الله) مني أن أسأل المشيعين (من هو الميت؟) فمر أقربهم وكان يسير قرب سيارتي فسألته.. "من فضلك من الميت الذي تشيعون؟" فأجاب الرجل "والله لا أعلم!!" وتكرر السؤال مع ثاني وثالث حتى أدبر المشيعون باتجاه مسجد الباب الشرقي في هيت وكان كل من سألت لا يعرف خلفَ جنازةِ منْ هو يسير مشيعا، إنها جنازة مسلم وحسب فما كان من أبي الشيخ ذو الثمانين عاما والذي سمع إجابات المشيعين لي إلا أن اغرورقت عيناه بالدموع خشوعا وراح يتضرع للمدينة داعيا لأهلها بالخير فقال "هذا هو الخير الذي يعم بلدتنا إنهم لا يفرقون في التشييع بين صاحب المال والفقير المعدم، بل لا يعرفون خلف من تسير أقدامهم مشيعة ً".
غادرت كلمات والدي الشيخ المكان ولم تغادر ذهني أصداءها منذ ذلك الحين، بل أضافت للمدينة صفة قد أكون حينها غير مدرك لما كان الشيخ بمداركه وعواطفه وخبرته يعني بمشاعره الثمانينية ودعاءه رغم أني كنت قد تجاوزت الثلاثين من العمر وقتها....، فأصر والدي أن يرويها إلى الناس كلما شعر أنهم بحاجة إلى من يذكرهم بأننا مازلنا بخير رغم كل ما مررنا به من ظروف قاسية تنهار لوطئتها أمم.
ولم تتوقف الخصال الإسلامية لأهل المدينة عند حد تشيع جثمان ميت ما؛ بل هم يكملوا حسناتهم حتى بعد التشيع والصلاة على الميت ودفنه في أنهم يقفون متكاتفين يسدون عن ذوي الميت حاجته إلى الخدمات الأساسية والضرورية حتى لا يكاد يعلم في بعض الأحيان من الذي أدى كل هذه الخدمات بهذه السرعة.. بلحمة وتكاتف يثيران الاستغراب لدى أهل التحضر في بغداد ولا يكادون يصدقون أن أمور التبرع بشكل طوعي والتدافع في سبيل أن يحظى الإنسان بالأجر برضا الله والسمعة الطيبة.
وطأة الاحتلال مدينة النجاة
حدث هذا قبل الاحتلال عام 2003، فظن الناس أن ما بعد حلول الأمريكي بأرضنا ستتغير قناعة الناس ويتفكك نسيجهم الاجتماعي أو يتلاشي ويتأثرون بسلبيات الحروب، وجاء اليوم الذي انهارت فيه الصواريخ الأمريكان على رؤوسنا كما المطر حيث لا منجى منها إلا يد الله وحفظه وتدافع العراقيون فهام العباد في أنحاء العراق بحثا عن مدن آمنة تكفل لهم البقاء والحماية بعيد عن نار طالت كل شيء إلا من رحم ربي، فكانت مدينة (هيت) واحدة من المدن التي فتحت أذرعها لاستقبال أناس هاموا على وجوههم بحثا عن ملجأ.
امتلأت شوارع مدينتا (هيت) بالوافدين اللائذين وهي التي لم يكن يتجاوز عدد سكانها أكثر من 110 ألف بحسب إحصاء أجرته الحكومة عام 1997 واستقبلت بيوتها ضعف عددها أو يزيد حتى بات من الصعب على مستخدم السيارة أن يلج بها وسط المدينة في أوقات الذروة ولكن المواطنين (أهل البلدة) كانوا سعداء بالوافدين المستغيثين الذين كانت أعينهم في حيرة مم يرون من كرم وضيافة تتطبع بها مدينة فاضلة كمدينة (هيت) حتى أفرغ أصحاب الفنادق غرفا استقبالا للزوار بلا مقابل وفعلت كذلك البيوت.
مساجدنا.. دور ريادي!
رغم أن المدينة تمتاز بكثرة المساجد وقدمها من الناحية الأثرية واكتظاظ أروقتها بمرتاديها كجامع الفاروق عمر بن الخطاب في منطقة القلعة ويسمونها الأهالي (بالولاية) ذات السور الأثري والجامع الشرقي وجامع الشيخ العالم المجاهد نزيل هيت (عبد الله بن المبارك) وسط المدينة فقد تكفلت المساجد عام 2003 وأثناء فترة الغزو وكعادتها بتسجيل أسماء العائلات (الهيتاوية) التي أعلنت استعدادها لاستقبال النازحين من بغداد إليها.. قوائم لبيوت تبرعت بإفراغ منازلها استقبالا للضيف (اللائذ) القادم من بغداد على الأغلب، فأفرزت غرفا في بيوتها لهم وأحسنت الضيافة.
العرف السائد في المدينة هو"إذا كنت من أهالي مدينة هيت فعليك أن تعرف كل أبناء المدينة أو اغلبهم على اقل تقدير والغريب هو من يجهل نسب فلان أو انحداره وعائلته وفي الحرب عليك أن تكون دليلا لعائلات تصل المدينة هاربة من جحيم أعده الأمريكان وأعوانهم لبغداد".
كنت أقف في أحد أيام الحرب عام 2003 عند مدخل المدينة كما يقف العديد من الأهالي مستقبلين اللائذين بمدينتنا من حمم الحرب فكانت عشرات العائلات تدخل المدينة إلى بيوت سجلت أسماءها لدى مساجد المدينة متبرعة باستقبال المهجّرين.
ففي وقت يكون لزاما على الأغنياء من أهالي (هيت) أن يوفروا سكنا لإنسان هجر بغداد منقذا لعائلته هو أمر طبيعي لا يثير الاستغراب، ولكن أن يستقبل إنسان يعيش على الكفاف ثلاث عائلات في بيته طيلة مدة الحرب التي تجاوزت ثلاثين يوما وبعضها لشهرين، مسجلا أثرا جميلا في أنفس الضيوف وتاركا مثلا لمن يريد الاقتداء به من أهالي المدينة.
خرج موضوع استقبال النازحين إلى المدينة من أطار العفوية ليمتزج بنوع من التنسيق، فنظم شباب من المدينة جمعيات عفوية (لا تنتمي لأحد) تابعوا من خلالها عائلات سجلت أسماءها لدى مساجد المدينة متبرعة لإيواء النازحين وبهذا منحت المسجد دورا رياديا عاد من خلاله ليمارس قيادة المجتمع كما كان في صدر الدعوة الإسلامية، دور افتقده المسجد.
فقد ظلت هذه المدينة عنوانا لمقاومة الأمريكان على أرض الرافدين بل كانت من المدن الشرسة في وقوفها بوجه العدوان والغزو محتلة موقعا في قائمة أخبار وسائل الإعلام بتصديها للاحتلال الأمريكي.
ما زال أهل المدينة يفخرون بلا غرور أنهم لم يسمحوا يوما لسيارة إطفاء الحريق أن تصل وتخمد نارا شبت في المدينة قبل أن تصل إليها أيدي (أيدي المواطنين) وهم يقولون أن الأجر يضيع إذا افتقدوا الغيرة وانتظروا سيارة الإطفاء حتى تصل وتخمد حريقا شب في بيت من بيوت المدينة.
ربما كان أفلاطون بحاجة إلى أن يضيف إلى مدينة (طيبة) الفاضلة خصالا من مدينتنا فهو مجّد مدينته وامتدحها ولم يعلم أن مدينتا أكثر طيبا من (طيبته) وربما أكثر نفعا، فمدينة (هيت) واقع لا خيال خلد ذكرها من لاذ بحماها وأمتدح، فامتلأت جدران شوارع بغداد ومقالات كتبتها صحف بغداد بكلمات الشكر بأقلام العائدين من (هيت) ممن قضوا شهورا وأسابيع فيها بضيافة أهلها ولتبقى (طيبة) أفلاطون مدينة خيال لم نجد واقعا لها إلا في بطون الكتب أما (هيتنا) فمدينة واقع سطر أمجادها أمهات الكتب وباتت مدينتنا الفاضلة أفضل وأكثر واقعية من مدينة أفلاطون مدينة خيال عجز وزملاءه الفلاسفة أن يضعوها حيز التنفيذ.
الوطن
شبكة البصرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق