قال الدكتور يوسف عبدالرحمن المرعشلي في مقدمة لتفسير ابن كثير الجزء(1) ص (24)
كما نلاحظ على ابن كثير أنه يدخل في المناقشات الفقهية ، ويذكر أقوال العلماء وأدلتهم عندما يشرح آية من آيات الاحكام ، وإن شئت أن ترى مثالا لذلك فارجع إليه عند تفسير قوله تعالى في الاية ( 185 ) من سورة البقرة ( . . . فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر . . . ) الاية ، فإنه ذكر أربع مسائل تتعلق بهذه الاية ، وذكر أقوال العلماء فيها ، وأدلتهم على ما ذهبوا إليه ، وارجع إليه عند تفسير قوله تعالى في الاية ( 230 ) من سورة البقرة أيضا ( فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره . . . )الأية،
فإنه قد تعرض لما يشترط في نكاح الزوج المحلل ، وذكر أقوال العلماء وأدلتهم . وهكذا يدخل ابن كثير في خلافات الفقهاء ، ويخوض في مذاهبهم وأدلتهم كلما تكلم عن آية لها تعلق بالاحكام ، ولكنه مع هذا التفسير من خير كتب التفسير بالمأثور ، وقد شهد له بعض العلماء ، فقال السيوطي في ذيل تذكرة الحافظ ، والزرقاني في شرح المواهب : ( إنه لم يؤلف على نمط مثله ) .
وقد ذكر الدكتور سليمان بن إبراهيم اللاحم في كتابه ((منهج ابن كثير في التفسير))طبعة دار مسلم
ان القرآن والسنة النبوية المطهرة هما المصدران الأساسيان في استنباط الأحكام الفقهية والقواعد التشريعية والأصولية ، لهذا نرى علماء المسلمين وقفوا عند كل نص من الكتاب والسنة واستنبطوامافيه من أحكام فقهية وأمور تشريعية ، فالمفسرون استنبطوامافي القرآن من فقه وأحكام ، والمحدثون استخلصوامافي السنة أيضا من ذلك،والفقهاء جمعوا الأحكام وأدلتها من الكتاب والسنة في كتبهم الفقهية ،علما أن هناك تداخلاً كبيراً بين هذه العلوم، فمفسر القرآن لاغنى له عن النظر في السنة، وكذا شارح الحديث لاغنى له عن الرجوع إلى القرآن، والفقيه لاغنى له عنهما معاً.
ولقد اختلف المفسرين في تناولهم للأحكام قلة وكثرة ولعل السبب الذي جعل المفسرين يختلفون هذا الاختلاف هو اختلاف مشاربهم وتنوع ثقافاتهم .. فنزع كل منهم الى الاهتمام بالفن الذي أجاد فيهافالفقيه في تفسيره اهتم بالأحكام الفقهية، والمحدث اهتم بذكر الأحاديث ومناقشة أسانيدها، والنحوي واللغوي كذلك اهتم كل منهما بالفن الذي أجاده وبرع فيه.
توسط ابن كثير في تناوله للأحكام الفقهية والأصولية عموماً:
ولانكون مغالين إذا قلنا: إن الحافظ ابن كثير-رحمه الله- من أبرز هذه الطبقة التي وقفت من الأحكام الفقهية والأصولية موقفاًوسطا، فتناولت هذه الأحكام بحدود المعقول والمقبول في تفسير القرآن، فلم يهمل الكلام على الأحكام والمقام يتطلبه، ولم يحمّل النص القرآني مالم يدل عليه، وإن كان هناك استطراد في بعض المواضع فهو إلى حد مستساغ مقبول .
ذكر الحافظ ابن كثير لأقوال المجتهدين من السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم من الفقهاء، واهتمامه بذكر المذاهب الأربعة وبخاصة المذهب الشافعي:
حيث يهتم ابن كثير بذكر اقوال المجتهدين والفقهاء من الصحابة والتابعين وغيرهم ويهتم اكثر بذكر المذاهب الاربعة المشهورة ويعطي للمذهب الشافعي من بينها اهتماماً أكبر .
مناقشة الحافظ ابن كثير لما يورده من أقوال المجتهدين والفقهاء وبيان الصحيح منهاأوالراجح من غيره:
وكما كانت طريقته مناقشة الآثار المروية عن الصحابة والتابعين في تفسير بعض الآيات فكذلك طريقته بالنسبة لأقوال المجتهدين والفقهاء ، فلم يكتف بسر الأقوال بل إنه ناقشها في كثير من المواضيع ، وبين الصحيح منها والراجح من غيره منها.
الحافظ ابن كثير كثيراً ما يرجح قول الشافعي، وقد يرجح غيره:
وذلك بحكم كونه شافعي المذهب فهو كثيراً ما يرجح قول الشافعي ويأخذبه إلا أنه مع هذا لايتعصب لمذهب الشافعي ، وقد يخالفه في بعض أقواله ويصحح ويرجح قول غيره خصوصاً إذا رأى أن الحق قد يكون مع غيره.
الحافظ ابن كثير قد يذكر أقوال الفقهاء دون بيان الراجح منها من غيره:
وقد يذكر الأقوال بدون أن يرحج بينها أو ينص على الضعيف منها.
استطراد الحافظ ابن كثيرأحياناً في تناوله لبعض الأحكام:
هذا ومع أن الحافظ ابن كثير متوسط في تناوله للأحكام غالباً إلا أنه قد يستطرد في بعض المواضع ، فينتقل من ذكر القوال وأدلتها والراجح منها الى ذكر المناقشات والردود وإيراد بعض الإشكالات على بعض الأقوال وذكر إجابات العلماء عليها.
تقليل ابن كثير الكلام عن الأحكام أحياناً:
قد يقلل الحافظ -رحمه الله- في بعض المواضع من الكلام عن الأحكام الفقهية حتى ليبدو وكأنه لايتكلم عن آية من آيات الأحكام.
تناول الحافظ ابن كثير في مواضع كثيرة للأحكام الأصولية بذكر بعض القواعد الأصولية، وذكر استدلال الأصوليين ببعض الآيات، واختلافهم مع مناقشة ذلك أحياناً:
كثيراً ما يعرض الحافظ ابن كثير للقواعد الأصولية فيستدل ببعض قواعد الأصوليين في بعض المواقع
عدم إكثار الحافظ ابن كثير من الخوض في علوم الكون والفلك والطبيعة مع معرفته بها ، وحرصه غالباً على الوقوف على مايدل عليه ظاهر الآيات أو ماهو مشاهد معروف من هذه العلوم:
أما ما يتعلق بعلوم الكون والفلك والطبيعة واجتهادات العلماء حولها فإنه لايكثر الخوض فيها، وقد يشيرإليها في بعض المواضع.
حسن طريقة الحافظ ابن كثير في عرضه للخلاف وبروز شخصيته في مناقشة الأقوال وحسن اختياراته، ومدى ما كان عليه من معرفة بالأحكام الفقهية والأصولية وعلوم الكون والفلك والطبيعة:
ويظهر لنا مما تقدم حسن طريقة الحافظ ابن كثير في عرضه للخلاف، كما تظهر لنا شخصيته المستقلة في مناقشته للأقوال واختياره منها مادل عليه الدليل من غير تعصب لمذهب من المذاهب او قول من الأقوالومدى ما كان عليه من معرفة بالأحكام الفقهية والأصولية كما تبين لنا أيضاً أنه في تناوله للأحكام وسط بين المكثرين من تناولها والمقلين من ذلك من المفسرين حيث
أعطى لهذا الجانب حقه من غير إفراط ولاتفريط.
مجالات الاجتهاد في تفسير ابن كثير محصورة في مجال الرأي المحمود:
حيث يرى الحافظ ابن كثير تبعاً لإمامه الطبري وشيخه ابن تيمية وغيرهما من علماء السلف والخلف أن الرأي ينقسم إلى قسمين: محمود ومذموم ، فالمحمود جائز والمذموم محرم ،كما صرح بذلك في مقدمة تفسيره، ولهذا نجد أنه وإن كان يفسر القرآن بالماثور فقد أضاف الى ذلك شيئاً من الاجتهاد والرأي المحمود الموافق للكتاب والسنة والمستوفي جميع شروط التفسير ، لهذا جاء تفسيره -رحمه الله- جامعا بين المنقول والمعقول والرواية والدراية ، ونحن لانعجب من هذا الاتجاه إذا عرفنا أن عمدته في التفسير هو عمدة المفسرين عامة الإمام الطبري-رحمه الله- وهو أول من ابتكر هذه الطريقة من حيث الجمع بين التفسير بالمأثور وإضافة شيء من الاجتهاد والرأي المحمود، كما أن لتأثر الحافظ ابن كثير بشيخ الإسلام ابن تيمية أثراً كبيراً في هذا الاتجاه، ونستطيع أن نقول إن مجالات الاجتهاد في تفسيره-رحمه الله- محصورة في مجال الرأي المحمود والاجتهاد المقبول ، وتتركز في مناقشته لكثير من الأقوال، والتوفيق بينها،وبيان الصحيح والحسن والضعيف منها، والراجح من غيره ..
وهكذا طريقته في جميع الجوانب التفسيرية التي تناولها فهو ينقل وينقد ويصحح ويضعف ويوجه ويوفق، ويختار قولاً ويترك غيره ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق